ضرورة تأجيل مباشرة محاكم الاستئناف مهامها
لم يعد خافياً على أي من منسوبي ميدان القضاء والمحاماة أن صدور نظام القضاء الحالي الذي صدر عام 1428هـ، قد جاء في وقت مبكر قبل تهيئة المحاكم للتنفيذ التام والمباشر لهذا النظام؛ فقد اشتمل النظام الجديد على عدة تحولات تاريخية كبرى في القضاء السعودي، بعد عقود من الركود والرتابة.
وكان أبرز ما اشتمل عليه نظام القضاء الجديد مثلاً (المحاكم المتخصصة الجديدة مثل المحاكم الجزائية والأحوال الشخصية والتجارية والعمالية وكذلك (إقرار درجات التقاضي الجديدة وهي الاستئناف والنقض المتمثل في المحكمة العليا) وكذلك (التوجيه بدراسة أوضاع اللجان القضائية وشبه القضائية التي كانت متناثرة في العديد من الجهات الحكومية المختلفة وتفصل في نزاعات بأحكام نافذة، وتقرير ما يلزم لتحويل كل اختصاصاتها إلى مظلة القضاء العام).
ثم بعد صدور نظام القضاء بقي الكثير مما جاء فيه من أحكام معطلاً لحين تعديل وصدور أنظمة المرافعات الشرعية والمرافعات أمام ديوان المظالم والإجراءات الجزائية، والتي لم تصدر إلا في عام 1435هـ.
وحتى بعد صدور هذه الأنظمة الثلاثة منذ أكثر من ثلاث سنوات ما يزال الكثير من أحكامها وأحكام نظام القضاء لم يبدأ العمل بها إلى الآن؛ ذلك أن تطبيق جميع هذه الأحكام لا يتوقف فقط على صدور هذه الأنظمة؛ بل يتطلب العديد من التجهيزات الكبرى الهائلة التي لم تتوافر إلى الآن، وعلى رأسها توفير العدد الكافي من القضاة، وتهيئة المقرات والمباني المجهزة لمباشرة هذه المحاكم أعمالها.
وإن المتعامل اليوم مع القضاء يدرك كم هي الجهود التي تبذلها محاكم الاستئناف في القضاء العام أو القضاء الإداري بفروعها المنتشرة في المملكة، للفصل في القضايا التي تتراكم بشكل يومي يشكل عبئاً كبيراً على القضاة، ويستغرق وقتاً ليس بالقصير لتفحص هذه القضايا ودراستها وبذل الجهد لإحقاق الحق فيها.
وفي ظل العدد الحالي لقضاة محاكم الاستئناف، والمباني الحالية التي شهدت أزمة حين انتقل إليها قضاة الدوائر الجزائية في ديوان المظالم بعد سلخ القضاء الجزائي، وواجهت تلك المحاكم صعوبة كبرى في توفير مكاتب لهؤلاء القضاة، بالإضافة إلى عدم وجود القاعات الكافية التي يمكن لمحاكم الاستئناف عقد الجلسات القضائية فيها، فإن كل هذه العوامل مجتمعة تجعل من البدهي لكل مطلع على هذا الواقع أن يعلم حجم التحدي الكبير والضخم وغير المعقول الذي ستواجهه محاكم الاستئناف في حال تم البدء بممارسة اختصاصاتها وفق النظام الجديد، وتفعيل درجة قضاء الاستئناف، وبالتالي فإن النتيجة الطبيعية التي تترتب على ذلك هي أن تصبح مواعيد جلسات القضايا بالأشهر الطويلة التي قد تصل لفترة ستة أشهر بين الموعد والموعد، وسيؤدي إلى تراكم القضايا وبطء الإنجاز لدرجة قد لا يطيق الناس احتمالها.
وإذا ما أضفنا إلى هذا أن الكثير من قضاة الاستئناف ممن هم الآن على رأس العمل ما بين من تقدم بطلب التقاعد المبكر لأنه تم تعيينه في منطقة بعيدة عن مقر سكنه الأصلي، دون أي مقابل مادي ولا توفير سكن ملائم، وما بين من سيبادر فعلاً إلى تقديم طلب التقاعد بمجرد أن تبدأ محاكم الاستئناف في مباشرة اختصاصاتها الجديدة، لأن الكثير من هؤلاء القضاة يرون أنهم قضوا في الخدمة القضائية في محاكم الدرجة الأولى ما يكفي وواجهوا من العناء ومقابلة الجمهور ومشقة جلسات التقاضي بما فيها من خصومة ولجاج ومناكفات، بحيث لم يعد القاضي يطيق أن يكرر هذه التجربة، فيفضل التقاعد على هذه المهمة الشاقة، وهذا يجعلنا أمام مأزق كبير بين أن نقبل طلبات التقاعد لهؤلاء القضاة فيختل الواقع القضائي، أو نرفضها فيضطر القاضي إلى العمل مكرهاً وهذا ما لا يكون في صالح العدل والقضاء، أو الانقطاع عن العمل.
لكل ذلك فإني أؤكد على أن صدور نظام القضاء قبل تهيئة الميدان القضائي لتطبيق كل ما جاء فيه، لا ينبغي تحميل تبعاته للقضاة ومراجعي المحاكم الذين سيتضررون كثيراً بالتطبيق دون الإعداد الكافي لكل نواحي هذه الأنظمة القضائية.
وأتمنى على القيادات القضائية إعادة النظر في هذه المسألة الحساسة، وأرجو تداركها قبل أن نأتي في اليوم الذي نتذمر ونتلقى شكاوى الناس وتظلماتهم من تعطيل نظر قضاياهم بعد مباشرة الاستئناف لاختصاصاتها الجديدة.
والحمد لله أولاً وآخراً.