التشكيلات القضائية الجديدة والآمال المعقودة

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

استقبل المجتمع القضائي والحقوقي في المملكة قبل أيام صدور عدة أوامر ملكية كريمة بإعادة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة العليا، متزامنة في صدورها مع تطلعات المواطنين عموماً والمهتمين بالشأن الحقوقي خصوصاً نحو سرعة استكمال ملامح مشروع خادم الحرمين الشريفين " أيده الله " لتطوير مرفق القضاء، وحث الخطى نحو تطبيق مضامين نظام القضاء الصادر منذ عام 1428ه، إلا أن أهم جوانب هذا النظام ما زالت غير مُفعّلة بانتظار صدور الأنظمة الأخرى ذات الصلة وهي أنظمة المرافعات والإجراءات الجزائية المُكمّلة لنظام القضاء الجديد .

ولئن كان أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الأعلى للقضاء أو المحكمة العليا السابقون لهم علينا حق الشكر والدعاء على ما قدموه من جهود طيبة مشكورة، إلا أننا نتطلع وكلنا أمل أن يوفق الله خلَفهم لتقديم ما من شأنه النهوض بمرفق القضاء، وإصلاح وتجديد ما يمكن أن يكون فيه من جمود وضعف عن مواكبة مستجدات العصر من نوازل قضائية وإشكالات حقوقية تستدعي إعادة النظر في الاجتهادات السابقة المعمول بها فيها، وإبراز عظمة هذه الشريعة وعدالتها وشمولها واستيعابها لكل حاجات البشر.

ولعل أبرز ما حملته الأوامر الملكية الكريمة الأخيرة من إشارات، أن منهج خادم الحرمين الشريفين " أيده الله وحفظه " الذي امتاز به عهده الميمون، من تدوير عجلة المسؤوليات والمناصب والولايات، والاعتماد في ذلك على الكفاءة والأمانة أولاً وآخرا، أن ذلك شمل الولايات القضائية كغيرها من الوظائف والقيادات والولايات داخل منظومة الدولة، والتي حسب النظام الأساسي للحكم وحسب المنهج الإسلامي الشرعي لولاية الأمر العظمى في الدولة الإسلامية، أن مرجعها الأول والأساسي إنما هو لولي الأمر الذي حاز القبول والرضا والبيعة الشرعية، واجتمعت عليه الكلمة.

وفي ملمح آخر لا يخفى، حملت هذه التشكيلات القضائية الجديدة شمولاً وتنوعاً في تمثيل عدة مناطق من المملكة، فلم تكن - كما كانت الحال في السابق - حكراً على منطقة ٍ واحدة، حتى أصبح هذا الاحتكار التعصبي محل مقت وتذمر من المواطنين.

ورغم أن هذه الأوامر الملكية الكريمة كانت محل ترحيب واستبشار عموم المواطنين والمختصين- كما أشرت - إلا أن هناك أصواتاً لدوافع مكشوفة لا تخفى، أبت إلا التشغيب والتشكيك في هذه الأوامر الكريمة، إما بحجج قانونية ٍ - زعموا - وإما باتهام النوايا والدوافع وراء هذه الأوامر الملكية.

وفي سبيل تدعيم آرائهم وقعوا في الكثير من التناقضات التي لا تفوت على من له أدنى فهم وبصيرة، مثل استشهادهم واحتجاجهم ومطالبتهم بالتمسك بالنظريات القانونية الوضعية التي تدور حول مسألة استقلال القضاء وفصل السلطات، بينما هم لم يفهموا المراد منها ولا التطبيق الصحيح لها. ثم في ذات السياق يقفزون إلى التشكيك في أن وراء هذه الأوامر الملكية دوافع تغريبية وأن المقصود بها تسريع (تقنين الشريعة) حسب ما حملته عقولهم من أوهام .

فيكف ساغ لهم الجمع بين محاربة ما يظنونه تغريباً من (تقنين الشريعة) رغم أنه محل مطالبة علماء وحقوقيين بل وجمع كبير من رجال القضاء أنفسهم، وبين المطالبة بأمر هو من صميم الفكر التغريبي ومبادئ الغرب القانونية ؟!!

ولعل من سنن الله الكونية أن كل تغيير حتى ولو للأفضل لابد أن يواجه بمعارضة ومعاندة، ينضوي تحت لوائها إما مسكونون بنظرية المؤامرة ونبذ كل توجه تحديثي، وإما قومٌ يذودون عن مصالح فردية ضيقة يكون في هذا التغيير مساساً بها، وإما فئامٌ فاتهم ما كانوا يؤملون لأنفسهم من حظوظ ومواقع في هذا الوضع الجديد، إلا أن مما يؤسف له كثيراً أن يتمسح هؤلاء بمسوح المصلحة العامة، أو الذود عن الشريعة التي صوروها للسذج من الناس أنها تعرضت لانتقاص أو مساس .

وهاهي الأحداث المتكررة تطالعنا بالكثير من هذه الأساليب التي أعتقد أن المجتمع بدأ يعيها جيداً ويفضح زيفها.

ومن المؤسف أن يصدر شيء من هذا الطرح التشغيبي المشوش المتضمن تحريضاً على ولي الأمر وبثاً لروح الفرقة والفتنة في صفوف الناس، من بعض منسوبي القضاء الذين خرجوا عن تقاليد وأصول العمل القضائي النابذة لمثل هذا المسلك. وغني عن القول أن عموم القضاة لا يقبلون بمثل هذه التصرفات ولا التجاوزات، ويلتزمون بما تفرضه هذه الوظيفة والولاية الشرعية على شاغلها من سمت وقيود.

وعوداً على بدء أجدد التأكيد بأن الآمال معقودة على من حازوا الثقة الملكية الكريمة من أعضاء المحكمة العليا أو المجلس الأعلى للقضاء، وأننا نتطلع إلى أن يوفقوا لإنجاز الكثير من الملفات العالقة في مهام واختصاصات كل منهم، سيما وهم من الأسماء القضائية التي لا يخفى تاريخها ولا مسيرتها ولا استحقاقها لهذه الثقة الغالية.

وأسأل الله تعالى أن يصحبهم بتوفيقه وعونه، وأن يحفظ ويوفق خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده لما فيه خير وصلاح هذه البلاد وأهلها.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني