سلطة الإدارة في إصدار القرارات.. وقفة مراجعة

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

عند وضع تنظيم يحكم إصدار مثل هذه القرارات، من الأهمية بمكان أن تكون معايير هذه القرارات التي يجب أن تخضع لهذا التنظيم، واضحة ومحددة، بحيث لا يحصل الخلل مستقبلاً في التطبيق

من المبادئ المقررة في القانون الإداري، أن جهة الإدارة تمتلك سلطة تقديرية واسعة في إصدار القرارات الإدارية التي تدخل ضمن نطاق اختصاصها، وأن هذه القرارات الإدارية من أهم الوسائل التي تستطيع الإدارة من خلالها مباشرة أعمالها، وتنظيم النشاط الذي أوكل إليها القانون تنظيمه.

ورغم أن سلطة جهة الإدارة في إصدار القرار تخضع لرقابة القضاء الإداري، كما تخضع أيضاً لرقابة الرأي العام الذي تؤدي فيه وسائل الإعلام دوراً مهماً وحيوياً؛ إلا أن هذه الرقابة لا تحول دون بقاء واستمرار السلطة التقديرية الواسعة للإدارة في إصدار ما تراه مناسباً من قرارات، متى كانت تهدف من وراء هذه القرارات إلى تنظيم الأنشطة التي تختص بالإشراف عليها.

إلا أنه من خلال متابعتي للكثير من الأحداث في الفترة الماضية، ولأصداء بعض القرارات التي تصدر عن الوزارات، فيما يتعلق بأنشطة مختلفة، ومجالات متنوعة، لاحظت أن بعض هذه القرارات عند صدورها، تؤدي إلى ردود أفعال واسعة، وانتقادات كبيرة من بعض الشرائح الذين تمس هذه القرارات حقوقهم، أو تؤثر في مراكزهم القانونية.

وأن بعض هذه القرارات بعد صدورها قد تصطدم بعدة عقبات تحول دون تطبيق القرار بالكامل، أو دون تطبيق جزء كبير منه، ما يجعل الوزارة المعنية مضطرة لتعديل ما صدر عنها من قرار، ليتلاءم مع الواقع الذي لم يكن في الحسبان عند إصداره

وفي صور عديدة أخرى، رأينا أن كثيراً من الأفراد أو الشرائح الذين يمسّهم هذا القرار، يلجأون أحياناً لأبواب ولاة الأمر، سواء باب الملك، أو ولي عهده، للاحتجاج أو التظلم أو المطالبة بإلغاء أو تعديل أو التدرج في تطبيق بعض القرارات، نظراً لما ترتبه عليهم من آثار، يصعب احتمالها، وكثيراً ما تصدر الأوامر السامية الكريمة بالاستجابة لمثل هذه المطالبات، متى ما كانت بطبيعة الحال، مطالبات واقعية.

إلى غير ذلك من الصور العديدة، لما يترتب على بعض القرارات الإدارية الصادرة عن الوزارات أو الإدارات الحكومية، من آثار قد تكون غير متصورة، أو غير متوقعة، قبل أو عند إصدار القرار.

وهذه المسألة تقودني إلى اقتراح أن يكون هناك تنظيم واضح، ومحدد، ودقيق، وملزم، لكل الوزارات والجهات الحكومية، بإخضاع ما يصدر عنها من قرارات تحمل أبعاداً واسعة، أو تؤثر في أي مجال من مجالات الأنشطة التجارية أو الاقتصادية للدولة، أو تمس شريحة واسعة من المواطنين أو المقيمين، وتؤدي إلى ترتيب آثار مادية عليهم؛ أن تُخضع مثلَ هذه القرارات، لإجراءات أكثر احتياطاً، وأن يكون لها آلية تضمن عدم صدورها، إلا بعد مراعاة كافة أبعادها، وما ينتج عنها من آثار، سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية .

وذلك بأن لا يصدر قرار من هذا القبيل، إلا بعد إشراك عدة جهات حكومية في دراسته والمشاركة في صياغته ووضع ضوابطه، ثم تكون الآلية التي يصدر عنها مثلاً عبر مجلس الوزراء، أو قد يكون لمجلس الشورى فيها رأي ومشاركة.

فليس من المناسب أن تتصدى كل وزارة بحكم اختصاصها، لإصدار قرارات شعبية عامة، بمجرد قناعات أو رأي أو رؤية الوزير أو فريق العمل المحيط به في الوزارة، فهم وإن كانوا أقرب من غيرهم إلى إدراك أبعاد واحتياجات وطبيعة المواضيع التي تختص وزارتهم بالإشراف عليها، إلا أنه قد يغيب عنهم الكثير من الجوانب المهمة التي تُعنى بحمايتها أو تنظيمها وزارات أو جهات حكومية أخرى.

ولو كان هناك دراسة تتولى رصد وتتبع القرارات الإدارية التي صدرت خلال السنوات الماضية من عدة وزارات ، لم يتم تطبيقها أو تعثرت مدة من الزمن أو أدخلت عليه تعديلات، أو أحدثت آثاراً سلبية كثيرة، لوجدنا عدداً غير قليل من القرارات التي تتصف بهذه الصفة.

ومن صور الآثار السلبية لبعض هذه القرارات مثلاً، ما يحدث من إثارة للرأي العام في وقت غير مناسب، أو ما يؤدي إلى ترتيب أضرار مادية جسيمة بمستثمرين أو رجال أعمال أو مشاريع وطنية، ما يُرتّب على خزينة الدولة تعويضات بمبالغ طائلة عند لجوء هؤلاء المتضررين للقضاء الإداري، والحكم لهم بالتعويض.

ومن صور ذلك أيضاً بعض القرارات التي تسعى لتطبيق مصلحة عامة، لكنها قد تغفل عن مفاسد أعظم يرتبها إصدار هذا القرار.

وعند وضع تنظيم يحكم إصدار مثل هذه القرارات، من الأهمية بمكان أن تكون معايير هذه القرارات التي يجب أن تخضع لهذا التنظيم، واضحة ومحددة، بحيث لا يحصل الخلل مستقبلاً في التطبيق، فيكون هناك ضبابية في تحديد نوع القرار الذي يجب أن يخضع لهذه الآلية، فيكون ذلك وسيلة إلى عدم الالتزام بهذه المعايير.

إن هذا المقترح الذي أطرحه اليوم، أعتقد أن أهميته تنطلق من أهمية أمن الوطن واستقراره، وليس مقترحاً تنظيمياً عادياً تتعلق أهميته بمجال محدد من مجالات العمل الإداري.

وهو أيضاً تحقيق لمبدأ الشورى في الأمر، وتفعيل للعمل الجماعي المشترك، وابتعاد قدر المستطاع، عن الآراء والقرارات ذات الصبغة الارتجالية الفردية، التي سببت لنا الكثير من الإشكالات، كونها تتغير من مسؤول إلى آخر، حسب رؤية وقناعات ذلك المسؤول.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني