القاضي.. هل أصبح موظفاً؟

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

حين كنتُ قاضياً كان من أكثر المواضيع التي يتكرر الحديث عنها في أوساط القضاة مسألة (هيبة القاضي)، و(مكانة القاضي) و(حصانة القاضي).. ويجري النقاش بيننا دوماً عن مسألة: (أن القضاء ولاية شرعية وليس مجرد وظيفة) وكنا دوماً نستحضر ما ورد في كتب الفقهاء عن أوصاف القاضي، ومكانته، وحقوقه، واستقلاله.. الخ، وكان كل ذلك يبقى حاضراً في أذهاننا ونحن نتعامل مع الناس عموماً، ومع مراجعي المحكمة خاصة، وكان لكل قاض طريقته الخاصة في فهم مدلولات هذه المسائل، وكيفية تقمص شخصية هذا القاضي ذي الولاية والهيبة والسلطة، فمن القضاة من يبالغ في ذلك، أو يسيئ فهم مدلولات هذه الأوصاف والأحكام، فيظن المقصود بها التعالي على الناس، والجفاء في التعامل معهم، والعزلة عنهم، والشعور بالانفصال عن المجتمع، والتبرم الشديد عند أدنى موقف يحدث له يرى فيه تقليلاً من قدره أو نيلاً من مكانته، أو تعرضاً لاستقلاله، حتى لو كان هذا الموقف صادراً من رئيسه المباشر، أو من أحد مسؤولي القضاء كالمفتشين القضائيين.

إن هذه الحالة التي كانت سائدةً في الوسط القضائي في السابق تعتبر السبب المباشر لوقوع الكثير من الحالات التي نسمع فيها امتناع قاض عن امتثال نصٍ نظامي واجب عليه امتثاله، أو رفض أي نقاش معه في سلامة إجراء اتخذه حتى لو كان من يناقشه هو رئيس المحكمة، فضلاً عن مناقشة محام أو غيره.

وأعتقد أن الكثير من السلبيات التي كانت تؤخذ على بعض القضاة في السابق سواءً في جانب تعاملهم مع المراجعين، أو تعاملهم مع مراجعهم الإدارية والقضائية، كل ذلك كان مرجعه إلى هذه المسألة، ألا وهي النظر إلى القضاء باعتباره (ولايةً أو منصباً شرعياً أفخم وأعظم من كونه وظيفة).

وفي العهد الجديد للقضاء، وبعد صدور الأنظمة القضائية الأخيرة، بكل تفاصيلها، وأوضاعها، وما يتعلق بها من إجراءات وتراتيب كثيرة تتطلب التعديل للتماشي مع النظام القضائي الجديد، والتوجه الإصلاحي الضخم والكبير الذي أسس له وقاده ودعمه خادم الحرمين الشريفين "أيده الله" فإن استمرار هذه الثقافة السائدة في القضاء سابقاً، لم يعد مقبولاً، ولا يمكن له الاستمرار في ظل النية الجادة والتوجه الجازم لتطبيق الأنظمة القضائية، وما تشتمل عليه من إصلاحات.

وبصفتي أحد المتخصصين في الشأن القضائي، وقاضياً سابقاً خاض تجربة المرحلة الأولى وعايش ثقافتها، فإني أصبحت ألحظ بوضوح، ويلحظ غيري من المتخصصين، حدوث تحول كبير في هذه القضية، وما زال هذا التحول يسير ويشق طريقه ماراً بكل العقبات والصعاب والتحديات، لكنه يسير بعزيمة وقوة واضحة، أثبتت فيها الأحداث والوقائع أن ثقافة (القاضي ليس موظفاً) لم تعد مقبولة، بل هو موظف كغيره من الموظفين، يحكمه نظام القضاء وأنظمة الخدمة المدنية، ويعتبر كغيره من الموظفين، يؤدي خدمةً لمراجعي المحاكم، ويأخذ عليها أجراً شهرياً، فإما أن يستوعب هذه الحقيقة ويلتزم بكل قيود وأحكام الوظيفة العامة، وإلا فإن عليه أن يسلك طريق العمل الحر، أو يبقى في بيته فيرتاح من عناء هذه القيود التي لم يكن معتاداً عليها.

وفي ظل ما يشهده مرفق القضاء من كثرة استقطاب المؤهلين الجدد، وحركة الترقيات التاريخية الضخمة التي لم يكن يحلم بها القضاة في السابق، والتي جعلت كل مستحق لترقية ينالها فوراً دون أي تأخير، ما جعل كل قضاة الصف الأول تقريباً ينتقلون لمحاكم الاستئناف، وأيضاً في ظل بعض الاستقالات التي اختلفت أسبابها والتي كان من أبرزها تبرم بعض القضاة من قيود المرحلة الجديدة بما تحمله من قوة رقابة، وصرامة ودقة في الإلزام بسلامة الإجراءات، والانضباط في العمل، وقوة الإنجاز، وغير ذلك من قيود لم تكن مألوفة، أقول في ظل كل هذه الأمور، أصبحنا نرى مرفق القضاء يشهد طلائع عهد جديد، وتسود فيه ثقافة مختلفة وإيجابية، تزيل – بإذن الله – الكثير من الشوائب التي كانت عالقةً في المحاكم، والتي كانت محل شكوى الناس، وكانت القيادات القضائية السابقة – وبكل صراحة – تقف أمامها عاجزة، وكنا نعتقد أنها حالة مستعصية على المعالجة والإصلاح، لكن أثبتت الوقائع والتجارب أن قوة وحزم القيادات القضائية الجديدة سواءً من معالي وزير العدل رئيس المجلس الأعلى للقضاء الدكتور محمد العيسى، أو معالي رئيس ديوان المظالم رئيس مجلس القضاء الإداري الشيخ عبدالعزيز النصار، أن ما يتصفان به من قوة وحزم مع حكمة وحسن تقدير أن ذلك كان كفيلاً بتصحيح المعوج، ولا أؤكد أن المشكلة انتهت تماماً، لكني أراها تلفظ أنفاسها الأخيرة.

أسأل الله أن يوفقهما لكل خير، والحمد لله أولاً وآخرا

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني