ما قبل التدوين يا لجنة تدوين الأحكام

مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

بعد عقود طويلة من التوقف والتردد والممانعة في البدء بتدوين الأحكام الفقهية على هيئة مواد، وضمن أحد أهم الخطوات الإصلاحية التنظيمية الكبرى التي يقودها خادم الحرمين الشريفين "أمده الله بالصحة والعافية والتوفيق" صدر الأمر الكريم قبل عدة أسابيع بتشكيل لجنة موسعة من عدد من العلماء والفقهاء والقضاة، لإعداد مشروع (مدونة الأحكام القضائية) في الموضوعات الشرعية التي تمس إليها حاجة القضاء.

وهذه المدونة وإن كان الأمر الكريم لم يتضمن أي إشارة لإلزام القضاة بها؛ إلا أنها تعد خطوة رائدة مهمة بعد سنوات من الجمود حول هذه القضية، ونواة مباركة لخطوات مستقبلية – بإذن الله – نحو المزيد من الإصلاح القضائي، ومعالجة أبرز الإشكالات التي تعترض طريق القضاء في أدائه لرسالته السامية.

وما من شك أن هذه المدونة التي حدد لها الأمر الملكي مدة مئة وثمانين يوماً فقط لإنجازها، لا يمكن أن تكون شاملة لكل مسائل ومواضيع الفقه الإسلامي، بل من الواضح ومن خلال عبارة الأمر الملكي"في الموضوعات التي تمس إليها حاجة القضاء" أن المدونة ستكون مقتصرة ً على أهم الموضوعات التي تمس إليها حاجة القضاء.

من هذا المنطلق أغتنم الفرصة في التوجه لأصحاب الفضيلة والمعالي أعضاء لجنة التدوين، وأضع بين أيديهم وهم يقومون بهذا العمل التاريخي الضخم، قضية من أهم القضايا التي ينبغي التصدي للفصل فيها قبل الدخول في تدوين أي أحكام موضوعية أخرى.

هذه القضية – ومن خلال تجربتي في القضاء والمحاماة – أدى ترك الباب فيها مفتوحاً دون حسم، إلى ترتب الكثير من المفاسد والأضرار العظيمة، على مستوى حقوق الناس، وتعريضها للضياع، أو في جانب إشغال القضاء بخصومات أنهكت القضاة، واستغرقت أوقاتهم، وقطعت أواصر الود بين المسلمين، وكل ذلك كان بالإمكان سدّ بابه لو أن هذه المسألة حُسمتْ بحكم شرعي يبنى على مقاصد الشريعة وقواعدها العامة، وبما لولي الأمر من صلاحيات السياسة الشرعية العادلة، حتى لا يساء إلى الشريعة، ولا يلصق بها النقص لعدم معالجة هذه القضية.

وترتكز هذه القضية على عدة مسائل هي:

أولاً: الإلزام بتوثيق الحقوق والديون التي تتجاوز حداً معيناً، وتخرج عن المقدار اليسير الذي قد يدخله العفو، ويخفّ فيه الضرر.

ثانياً: منع وسدّ باب سماع أي دعوى تهدف لإثبات خلاف الحقوق المكتوبة الموثقة، إلا بدليل لا يقل في مستوى حجيته وثبوته عن الدليل الكتابي الموثق الذي تسعى الدعوى لإثبات خلافه.

هل تعلمون أصحاب المعالي والفضيلة أم لم يبلغكم خبر؟

أتعلمون لو أن رجلاً باع آخر عقاراً قبل ثلاثين أو أربعين سنة ، وتم توثيق البيع لدى كتابة العدل، وأقرّ البائع بقبض الثمن، والمشتري بقبض المبيع، أمام كاتب العدل؛ أن كل ذلك لا يمنع أحدهما أن يرفع دعوى بعد عشرات السنين يزعم فيها أن ما أقرّ به لدى كاتب العدل لم يكن صحيحاً! ويطالب إما بالثمن إن كان بائعاً، أو بالمثمن إن كان مشترياً، أو حتى يزعم أحدهما أن ذلك لم يكن بيعاً بل كان على سبيل الرهن!

ومع ذلك يفتح القضاء بابه مشرعاً لسماع دعوى كهذه، ويطالب المدعى عليه أن يقدم إثباتاً على نفي الدعوى، وإلا فقد يحكم عليه بما ادعاه الآخر من حق.

وفي كثير من الأحوال يصطلي بنار مثل هذه الدعوى أطراف آخرون من حسني النية، سواء كانوا ورثة للمدعى عليه بعد موته، أو كان طرفاً آخر اشترى ذلك العقار من أحد طرفي البيع الأول، فتقام عليه الدعوى بصفته من بيده العين !!

ومثل ذلك أصحاب الفضيلة والمعالي:

لو أن أشخاصاً أسسوا بينهم شركة ووثقوا عقد تأسيسها لدى كافة الجهات الرسمية، بما فيها كاتب العدل الذي أقروا جميعاً أمامه أن كلاً منهم سدد حصته في الشركة، ثم بعد عشرات السنين يأتي أحدهم ليدعي بخلاف ما أقرّ به ووثقه، ويزعم أن شريكه فلاناً ليس سوى شريك صوري لا حقيقي، ويحاول هدم حجية عقد تأسيس الشركة القطعي اليقيني الموثق شرعاً ونظاماً، بشهادة فلان أو بقول علان!!

وأيضاً يفتح القضاء بابه لسماع هذه الدعوى ، ويُخضِعُ المدعى عليه لسلطان القضاء، ويكلفه بالامتثال والحضور لجلسات التقاضي، بما يرتب عليه ذلك من مصاريف وتكاليف محامين وسفر وتنقل وضياع أوقات.

وفي أمثال هذه الدعاوى قد يستعمل القاضي سلطته في إصدار العديد من الأوامر القضائية العاجلة بالحجز على الحق المدعى به، عقاراً كان أو منقولاً، ويمنع المدعى عليه من التصرف فيه ببيع أو غيره ، رغم ما يرتبه ذلك من ضياع فرص كسب، أو وقوع في خسارة، كمثل حالة أسهم الشركات المساهمة التي قد تخسر أضعاف قيمتها ما بين إقامة الدعوى وحتى انتهائها. وغير ذلك من أضرار يصعب كثيراً تعويضها.

أصحاب الفضيلة والمعالي..

لئن كان الله عز وجل قد أمر بكتابة الدين في أطول آية في القرآن، فما الذي يوقف ولي الأمر أن يضع للناس قانوناً بما له من سلطة السياسة الشرعية، فيأمر بعدم سماع الدعاوى التي تدعي بخلاف حق ّ مثبت وموثق إلا بدليل بمثل قوة الدليل المثبت للحق المدعى بخلافه؟

وعدم سماع أي دعوى بحق يزيد عن مقدار معين من المال دون وجود دليل كتابي يوثق هذا الحق؟

فإن العرف والعادة في تعاملات الناس هي أن مبناها على المشاحة والحرص، وإن مما يتعارض مع ذلك أن يكون لأحد عند غيره مقدار كبير من المال في ذمته دون أن يكتبانه، كمن يدعي بمبالغ طائلة له على غيره دون أي دليل كتابي.

ثم على فرض وقوع ذلك في بعض الأحوال النادرة، فإن النادر لا حكم له، وإن مفسدة إشغال القضاء، وشغل ذمم الناس، وتكليفهم بالامتثال لسلطة القضاء، أعظم من مفسدة ضياع حق نادر لشخص كان هو المفرّط في إثبات حقه، والمفرّط كما يقال: (أولى بالخسارة).

أصحاب الفضيلة والمعالي..

هذه جوانب – وأنتم أعلم مني – أكثر أهمية وأوجب في الحسم من غيرها، وهي مما تدعو إليه ضرورة القضاء لا مجرد حاجته، كما أن تبعات إهمالها وترك بابها مفتوحاً، سيئة ومسيئة لشريعتنا أولاً، ولسمعة دولتنا ثانياً، التي قد يُظن بها أنها لا تحفظ الحقوق، أو تقصّر في ذلك، أو أنها عون للمتلاعب والمحتال على الإضرار بغيره.

وأظن أن كل من يدرك حساسية وأهمية مثل هذه القضايا، يشاطرني الرأي والأمل في أن تتصدى لها لجنتكم الموقرة باقتراح حسمها بالطريق الشرعي الموافق لقواعد الشريعة ومقاصدها.

أسأل الله أن يوفقكم لتكونوا عند حسن الظن، وأن يجري على يديكم الخير.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني