يد الرقابة تضرب الفساد الاقتصادي

يعتبر تطوير القطاع المالي السعودي أحد أهم برامج رؤية المملكة 2030 المعتمدة من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وذلك بهدف جعل القطاع المالي السعودي قطاعاً متنوعاً وفاعلاً لدعم تنمية الاقتصاد الوطني، وتحفيز الادخار والتمويل والاستثمار، وزيادة كفاءة القطاع المالي لمواجهة التحديات.

ولا يمكن تحقيق هذه الغاية إلا بتعزيز الثقة في السوق، من خلال تطوير البيئة التنظيمية ورفع مستويات الحوكمة والشفافية بإتاحة كافة المعلومات المتعلقة بالشركات المدرجة في السوق لعموم المستثمرين، خاصة ًما يتعلق بمعلومات نسب الملكية وبيانات الميزانيات والمراكز المالية وميزان الأرباح والخسائر، وذلك لضمان عدة أهداف أساسية أبرزها عدم تضليل المستثمرين في سوق الأوراق المالية، وعدم السماح بالممارسات الاحتكارية أن تتسلل إلى الكيانات الاقتصادية الكبرى.

وقد خطت المملكة نحو هذه الغاية خطوات غير مسبوقة في الجوانب التشريعية والتنظيمية بسنّ الكثير من القوانين والأنظمة التي تكفل تحقيق هذه الغاية، وكان لهيئة السوق المالية دوراً فاعلاً بما لها من اختصاص رقابي على الممارسات التي تحدث تحت مظلتها، بملاحقة أي تجاوزات ٍ واتخاذ الإجراءات الرادعة لمرتكبيها، وهو ما يتم الإعلان عنه من وقتٍ لآخر.

وقد نصت المادة الخامسة من نظام السوق المالية على أن من أبرز اختصاصات هيئة السوق المالية: "حماية المواطنين والمستثمرين في الأوراق المالية من الممارسات غير العادلة، أو غير السليمة، أو التي تنطوي على احتيال أو غش أو تدليس أو تلاعب".

إلا أن ما أعلن عنه مؤخراً من دخول هيئة الرقابة ومكافحة الفساد على خطّ هذه الرقابة التي تستهدف سوق المال والشركات المدرجة فيه، كان خبراً غير معهود يحمل في طياته الكثير من الدلالات التي لا تخفى.

إذ تم الإعلان عن الكشف عن قيام (14) شخصاً، منهم رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات المساهمة التي تساهم الدولة بجزء من رأس مالها، ونائب الرئيس، والرئيس التنفيذي، وعدد من أعضاء مجلس إدارتها، وعضو لجنة المراجعة بالشركة، وخمسة من موظفي شركة مملوكة لرئيس مجلس الإدارة، بالاشتراك في التزوير، وغسل الأموال، والتلاعب بالقوائم المالية للشركة، وتأسيس شركات لغرض الالتفاف على نظام الشركات لتمكين رئيسها التنفيذي من شراء أكثر من (10%) من أسهم شركة أخرى مدرجة في السوق المالية بقيمة (200) مليون ريال من أجل التأثير على قرارات مجلس إدارة الشركتين لتحقيق مصالح شخصية.

ويظهر جلياً في هذا الخبر كيف بسطت الرقابة الجنائية الحكومية المختصة بملاحقة جرائم الفساد بالتعاون مع الجهة المسؤولة عن سوق المال، يدها على الممارسات الإجرامية التي حدثت في القطاع الخاص المرتبط بالسوق المالية، وهذه الضربة غير التقليدية تشكّل نجاحاً غير مسبوق يضاف لسجل النجاحات التي حققتها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد منذ تكوينها بشكلها الحالي وتعيين معالي رئيسها المشهود له بالتاريخ الحافل في هذا المجال الحساس.

وهنا يمكن لي قراءة واستخلاص عدة نتائج مهمة أبرزها:
أولاً: أن أخطر ما يكون الفساد وأبشع ما ينتج عنه من آثار مدمرة، حين ينتقل من كونه ممارسة ً عارضة لفرد طامع، إلى كونها ثقافة منتشرة متجذرة في مجتمع من خلال كثير من أفراده، وبالتالي فإن الحملة الوطنية لمحاربة الفساد التي أعلنها سمو ولي العهد حفظه الله وقادها بعزم وحزم، إنما تستهدف الفساد كثقافة، أكثر مما هو كممارسة فردية عارضة.

ثانياً: من أعظم العوائق التي تحول دون تحقيق الجهود الحكومية لمحاربة الفساد لأهدافها بفاعلية، ما يقع في بعض الدول من وقوف بعض السياسيين والنافذين الفاسدين في وجه هذه الجهود الرسمية، إلا أن المعادلة في المملكة كانت عكس ذلك تماماً بأن كانت القيادة السياسية هي القائد الذي أطلق هذه الحملة، وحثّ الجهات الرقابية على أداء دورها، بل وتابعها ودعمها وحاسبها إن تراخت في ذلك، وتعامل بشكل مباشر مع أي خلل ٍ أو ضعف ٍ يطرأ على أدائها، بما يضمن إصلاح الخلل، مستخدماً في ذلك كل الوسائل المتاحة والصلاحيات الواسعة، بما فيها إعادة تشكيل الجهات الرقابية وتوزيع اختصاصاتها، وتبديل المسؤولين فيها بمن هو أقوى وأقدر على أداء المهمة.

إن هذه الجهود التي تعلن تباعاً لضرب وملاحقة الفساد، تبعث للجميع رسالة واضحة، بأن العمل المشروع الفاعل في بناء وتنمية الوطن هو المصدر الوحيد للكسب المشروع، فلا مكان للإثراء غير المشروع عن طريق القفز على تطبيق الأنظمة أو المنافسات غير المشروعة.
والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني