مشروع الملك عبد الله لتطوير القضاء.. إلى أين يسير؟
منذ قرابة ثلاث سنوات على صدور نظام القضاء ونظام ديوان المظالم واللائحة التنفيذية لهما، وبعد الدعم السخي وغير المحدود والاهتمام الكبير الذي يوليه خادم الحرمين الشريفين ــ أيده الله وحفظه ــ للنهوض بمرفق القضاء وتحسين مخرجاته، وضبط أداء مرفق التوثيق في وزارة العدل، أقف اليوم متأملاً فيما انتهى إليه أداء الأجهزة القضائية المنوط بها تنفيذ هذا المشروع الكبير الذي يعتبر مرحلة مهمة وعلامة فارقة في تاريخ الدولة السعودية ــ أعزها الله وأدام ظلها الوارف ــ وإن أي عمل حتى يُمكن الحكم عليه بالنجاح أو التعثر بالنظر إلى بداياته وطلائعه، لأن أي مهمة بدأتها بشكل صحيح فقد أنجزت َ نصفها كما يقول المثل العالمي. وبعد ثلاث سنوات من الإعلان عن هذا المشروع الكبير الذي تطلعت أنظار المواطنين بكل شوق إلى رؤيته واقعاً يلامس حاجاتهم ويسهم في تحسين بيئة العمل القضائي وحفظ الحقوق، يحق لكل مواطن أو مقيم، فضلاً عن المتخصص في المجال الحقوقي، أن يتساءلوا جميعاً: ما حجم الإنجاز الذي حصل في هذا المشروع؟ وما أهمية الجزء المنجز ونسبته إلى حجم المشروع كاملاً؟ وهل الخطوات المعمول بها حالياً في المرافق القضائية تعتبر هي الطريق الأمثل والوسيلة الأفضل لتحقيق الغاية العظمى في تطوير مرفق القضاء؟ إني في هذا المقال أطرح رؤيتي للإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تخصصي ومتابعتي لما يدور في ميدان العمل القضائي حالياً، لكني أؤكد أن التقييم الدقيق لهذه النتائج يحتاج إلى لجنة مشتركة مستقلة منضبطة المعايير تستقرئ ما أنجزته الجهات القضائية وطريقة أدائها لتنفيذ مشروع تطوير القضاءن ثم تُقيّم هذا كله وتقدم توصياتها لمعالجة ما يمكن أن تجده من عوائق أو إشكالات، مما أعتقد أنه سيساعد على تلافي ما يمكن أن يكون قد حصل من قصور أو خلل ويسهم في تحقيق الغاية المرجوة من النهوض بالقضاء دون هدر في الأوقات والطاقات والجهود. أما عن وقفاتي مع هذه المرحلة من مشروع تطوير القضاء فأوجزها في التالي: أولاً: أنه مع مرور هذه المدة غير القصيرة من الإعلان عن بدء تطوير القضاء وصدور أنظمته، لا تزال الأنظمة الرئيسة التي يتوقف تنفيذ نظام القضاء كاملاً عليها، وهي نظام المرافعات الشرعية ونظام المرافعات الإداري ونظام الإجراءات الجزائية، مع أن مجلس الشورى قد أنهى في مرحلة سابقة مناقشة هذه الأنظمة والتصويت عليها، ومع ذلك لا يسعني إلا التسليم بأهمية وحساسية هذه الأنظمةن وأنه لا يحسن الاستعجال في إصدارها دون أن تحظى بالقدر الكافي من التدقيق والمراجعة والعرض على المختصين، كما أؤكد أنه مهما توافر لها من تدقيق ومراجعة، إلا أنه يجب أن يتاح بعد تطبيقها فرصة كاملة لتعديل ما يتعثر تطبيقه أو ما يكشف الواقع التطبيقي عدم ملاءمته، عبر اقتراحات وتوصيات يرفعها أصحاب الاختصاص من القضاة والمحامين وغيرهم، وأن يجري هذا التعديل بعد التحقق من صلاحيته بكل مرونة ويسر. ثانياً: لم يلحظ الناس منذ صدور أنظمة القضاء أي تطوير أو تغيير في أداء مرفق القضاء نحو الأفضل، بل إنه منذ صدور الأنظمة إلى هذا اليوم، والمراجعون للمحاكم وديوان المظالم يعانون حالة الارتباك الشديد والقصور الواضح، الذي وصل لدرجة لا يمكن السكوت عليها ولا تبريرها بأي ذريعة، وذلك في إنجاز القضايا وفي آلية التعامل مع المتخاصمين ومراجعي المحاكم وأصحاب الحقوق. وهذا الضعف الشديد في الأداء والقصور والتردي له أسباب كثيرة لا يتسع هذا المقال لحصرها ولكن لعل أبرزها: 1-كثرة عدد القضاة المعينين حديثاً الذين جرى تعيينهم بأعداد كبيرة وباشروا القيام بأعمال القضاء دون الحصول على التأهيل والتدريب والخبرة القضائية ولو بالحد الأدنى الذي يتيح سير عمل مرفق القضاء، وأصبح كثير من هؤلاء القضاة يشكلون الصف الأول للقضاء والواجهة التي تقابل الجمهور لكثرة من جرى ترقيتهم من القضاة السابقين إلى درجة قاضي استئناف ونقلهم للعمل في محاكم الاستئناف، بل حتى في الدوائر القضائية في ديوان المظالم التي يكون فيها قضاة من ذوي الخبرة يعهد رئيس الدائرة إلى القاضي الجديد تحضير القضايا وحضور الجلسات وضبطها بينما يتفرغ رئيس الدائرة لدراسة بعض القضايا أو كتابة أحكامه أو متابعة ما يطلب منه دورياً من بيانات أو إحصائيات أو إجابة على استفسارات في القضايا خاصة في ظل العجز الواضح في أعداد أعوان القضاة. وهذا الوضع له أثر سيئ جداً في إضعاف أداء المحاكم والأجهزة القضائية، والاختلال الواضح في طريقة عملهان وما يقود إليه ذلك من ضعف في مخرجات الأحكام وتأخير شديد في إنجاز القضايا، كما أن له أثراً كبيراً في سخط الناس على القضاء والقضاة. صاحب المظلمة والحاجة حين يلجأ للمحكمة طالباً حقه ثم يواجه قاضياً جديداً لا يجيد إدارة الجلسة ولا يحمل التأهيل والخبرة التي تمكنه من التواصل مع الخصوم، وفهم الدعوى على حقيقتها، والقيام بما يتطلبه نظرها من إجراءات، لا شك أن صاحب الحاجة عند ذلك سيصيبه الكثير من الإحباط حيال حقه الضائع الذي لا يرى بوادر تحصيله قريبة. 2-العجز الشديد الواضح في أعداد موظفي المحاكم والدوائر القضائية، خاصة في ديوان المظالم، ما أدى لتعطل الأعمال والقضايا، وزاد من الضغط على الموظفين والكتاب وأمناء السر لدرجة يصعب احتمالها، حتى أصبحت القضية تحتاج لنقلها من قسم إلى آخر داخل الديوان نفسه إلى مدة طويلة تصل إلى الشهر أحياناً، بل وصل الحال إلى ضياع معاملة كاملة (وهذا حدث معي شخصياً)، وأصبحت ترى التذمر الظاهر على القضاة والموظفين. وهذا الإشكال الكبير لا يمكن تعليق معالجته على صدور نظام المرافعات، أو نحو ذلك من الأسباب. لأن الوظائف المعتمدة لوزارة العدل وديوان المظالم تكفي لسد هذا العجز وتزيد. كما أن حالة التذمر والضغط الكبير الذي واجه الموظفين أديا لبحث بعضهم عن جهات حكومية أخرى للنقل إليها هرباً من هذا الواقع الذي لا يحتمل. 3- وما من شك أن لهذا الأمر أثره السيئ في أداء مرفق القضاء مما يوجب الالتفات إليه والبحث عن أسبابه ومعالجتها سريعاً. 4-الخلل في ترتيب الأولويات وعدم مراعاة حقوق المتقاضين في هذه المرحلة، والحماسة الشديدة في تنفيذ بعض الأجندة التي يُظن أهميتها لتحقيق النهوض بمرفق القضاء دون توازن، ومثال ذلك التركيز على التدريب للقضاة والموظفين بشكل أحدث خللاً جسيماً في تواجدهم وأدائهم لأعمالهم، ودون مراعاة ما لديهم من قضايا وأعمال متراكمة، فأصبحت القضية تؤجل مراراً وتكراراً، وهي منتهية وصالحة للفصل فيها لمجرد عدم تواجد القضاة وانشغالهم بالتدريب، وكذا التأخير الكبير المفرط في كتابة الأحكام، وتسليمها وتصدير المعاملات وغير ذلك من أعمال القضاء. وهذه مسألة سبق لي التحذير منها في مقال سابق. ثالثاً: كما تتسم هذه المرحلة عند التأمل بغياب التنسيق بين الأجهزة القضائية (المجلس الأعلى للقضاء – وزارة العدل – ديوان المظالم)، حيث اتجهت كلٌ منها للعمل منفردة في تنفيذ ما يخصها من جوانب نظام القضاء، دون الحرص على التنسيق بينها والعمل الجماعي خاصة في جانب التدريب أو الشراكات مع الجهات الحكومية والخاصة، مما يمكن فيه التنسيق وتوحيد الجهود وتقارب الرؤى لوحدة الهدف وتطابق المجال. وما من شك أن الجهود المبعثرة تزيد الأعباء وتطيل زمن الوصول للهدف وتضعف الكفاءة. وفي غياب التنسيق والتشاور يغلب طابع العمل الفردي والرؤية الشخصية، فيتم رسم السياسات وتنفيذها برؤية فرد أو أفراد قلائل. رابعاً: إن من الحقائق التي ينبغي التأكيد عليها أن تطوير القضاء، الذي ينشده الناس ويحقق المصلحة الفعلية، ويوصل لحفظ الحقوق وفصل المنازعات على أكمل وجه، ليس في الشكليات والهياكل وتغيير المسميات والصور مع أن المضمون باق على ما كان عليه بل قد يكون يتردى ويضعف. إن تطوير القضاء الكفيل بحفظ الحقوق، يجب أن يكون في مراجعة مخرجات الأحكام والاجتهادات القضائية، والتركيز على الأسس والقواعد من طريقة تأهيل القضاة في وقت التعليم الجامعي وطريقة اختيارهم بعد ذلك، وطريقة تدريبهم وتدرجهم في العمل القضائي. لماذا ينظر القاضي المعين حديثاً القضايا بصلاحيات ومستوى القاضي المعين نفسها منذ 30 عاما؟ لم لا تكون هناك آلية متدرجة لنوع القضايا ومستواها التي يباشرها القاضي المعين حديثاً بما يكسبه الخبرة ويقلل على الناس من الضرر والخسارة؟ ثم لماذا لا تبحث المقترحات الإيجابية الفعلية ذات الأثر المباشر في تطوير القضاء والنهوض به، وما يمكن تطبيقه منها، سواء كانت هذه المقترحات من القضاة العاملين في الميدان والذين هم أدرى الناس بمكامن الضعف والقوة في القضاء، أو المحامين والمستشارين وأصحاب التخصص، أو ما تعج به الصحف من كتاب يطرحون أطروحات يمكن الإفادة من بعضها؟ كم أتمنى لو قامت كل جهة قضائية بإصدار بيان أو تقرير توضح به ما أنجزته فعلياً من أعمال في تطوير القضاء مما يخصها، وما يعترضها من عوائق وتحديات، وتم الرفع بذلك للجهات العليا لمعالجته والوقوف عليه حتى لا نكتشف بعد مضي زمن طويل أننا لا ظهراً أبقينا ولا أرضاً قطعنا. وختاماً: أسأل الله التوفيق لكل ناصح لأمته والله تعالى حسبي ونعم الوكيل والحمد لله أولاً وآخراً.