أرى وطني في عيون ولدي

أرى وطني في عيون ولدي
مقال أسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض

كثيرا ما تستثار في خاطري الكثير من الشجون وأنا أطالع في عيون أولادي الصغار، ويذهب بي الفكر بعيدا في فضاءات الحب لهم والشفقة عليهم. فبقدر ما يكون في قلب الوالد لولده من الحب يمتزج هذا الحب بالشفقة والخوف عليه من كل شيء.

ولهذا خاطب الله المؤمن الواعي بهذه الغريزة البشرية بقوله سبحانه: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّة ضِعَافا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدا) وفي معنى هذه الآية يقول بعض المفسرين: هذا أمرٌ من الله عز وجل ولاةَ اليتامى أن يلُوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم، ولا يأكلوا أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصِّغار بعدهم لهم بالإحسان إليهم، لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا.

يقول أحد المفسرين عن هذه الآية: "بَيَّن الله سبحانه في هذه الآية أن الذي ينبغي للمسلم أن يدّخره لعياله، التقوى والصلاح لا المال؛ لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال: (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) فإنه يتولى الصالحين".

إذا فما من إنسان سوي إلا ويشغل تفكيره دوما الخوف على مستقبل أولاده، ويحمل همّ مواجهتهم للحياة التي يسأل الله ألا تكون قاسية عليهم، وأن يعيشوا فيها على أحسن حال، ويغادروها بسلام ودون شقاء.

وفي خضم هذه المشاعر والخواطر، لا يغيب عني دوما أنه لا يمكنني أبدا التفرقة بين حبي وعطفي وخوفي على ولدي، وبين حبي وعطفي وخوفي على وطني الذي هو وطن ومحضن ولدي.

هذا الوطن الذي احتضن أبي وجدي أحياء، ويضم ثراه أجسادهم أمواتا، هو كذلك محضن ولدي ومستقره ومستودعه، وهو أرض أحلامه، وسكنه، ومستقبله. فإن كان هذا الوطن آمنا مستقرا، فسيكون ولدي كذلك، وإن كان هذا الوطن شامخا معطاء قويا، فسينال ولدي نصيبه من هذا العطاء والرخاء.

فلا يمكن بحال أن أسعى في هدم أو تخريب وطني، وأنا أريد أمن ورخاء ولدي. إن هذين العملين نقيضان لا يلتقيان. ومشاعر حب الولد بقدر صدقها وغزارتها في القلب، تفجّر مشاعر الوفاء والولاء للوطن.

وإن أول ما يحمل الإنسان السوي همّه وهو يفكّر في مستقبل ولده، كيف سيكون هذا الوطن حاميا لحياة وكرامة وحقوق الولد؟ ومدى قدرة الوطن على إسعاد الولد؟ والوطن غدا هو نتاج بناء مواطنيه اليوم. فلا يمكن أن نقصّر في بناء الوطن وحمايته والمساهمة في رقيّه ونمائه، ثم نحلم أن يكون لأولادنا مصدر أمن ورخاء وعيش كريم.

لا يمكن بحال أن أسعى في هدم أو تخريب وطني، وأنا أريد أمن ورخاء ولدي. إن هذين العملين نقيضان لا يلتقيان. ومشاعر حب الولد بقدر صدقها وغزارتها في القلب، تفجّر مشاعر الوفاء والولاء للوطن..

وبموجب هذا المعنى الإنساني يمكننا تفسير الدافع لذلك الجندي الذي يودع أطفاله بالدموع متوثبا إلى خطوط الدفاع عن الوطن، وجبهات النار والقتال. فمفارقته لأطفاله إلى الموت لا يعني أنه يحب فراقهم ويفضّل الموت عليهم؛ إنما هو يحبهم حدّ الموت لأجلهم. وهو يعلم يقينا أنه متى تخاذل عن هذا الواجب الشرعي والوطني، فإن ذلك يعني اقتراب الخطر من أطفاله الذين يقطع قلبه فراقهم.

ولكي يحيا أولاده حياة الكرامة والعزة والأمن والاستقرار، فهو يضحي بروحه ودمه في سبيل ذلك.

وإذا كان فريق من أبناء الوطن الأبرار الشجعان يموتون في سبيل الحفاظ على هذا الكيان صالحا لاحتضان أولادهم وأولادنا؛ فإن من أعظم الإجرام أن نقصّر نحن في الحياة لأجل الوطن، بالمساهمة في بنائه، وإعماره، وحفظ أمنه الداخلي باستشعارنا لواجبنا العظيم في ذلك.

ومن يلقي نظرة على سلوك الكثير من الناس في أدائهم لواجباتهم الوظيفية، وفي تعاطيهم اليومي مع الأحداث العامة، يجد صورة مفزعة من اللامبالاة، والأنانية المفرطة، وقصر النظر، حتى لكأنهم يتعاملون وفق المنطق الأحمق (إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القطر) و(أنا ومن بعدي الطوفان). وفي ذات الوقت يزعم الواحد منهم أنه يحب أولاده ويخشى عليهم المستقبل؛ بينما هو الآن يساهم في هدم مستقبلهم، وزيادة فرص شقائهم، من خلال الإساءة والتخريب للوطن الذي يحتضنهم.

كم أتمنى وأنا أتابع السجالات الفارغة، والمهاترات البذيئة، والمساهمة غير الواعية في بثّ روح الفرقة ونشر الإشاعة المغرضة، مما يمارسه الكثيرون في وسائل التواصل الاجتماعي، كم أتمنى لو أن من يمارس ذلك يقف مع نفسه قليلا ويستحضر هذه المعاني، ويدرك فداحة ما يمارسه، وأنه بذلك إنما يخون ذكرى آبائه وأجداده في تخريب موئل حبهم، ويجرم في حق أولاده بإفساد أرض أحلامهم وقاعدة آمالهم. حتى يكفّ عن هذه الخطيئة، ويعود إلى رشده لممارسة البناء والعطاء، ويتوقف عن التفرقة بين حبه لولده وحبه لوطنه.

ومن هذه الزاوية أيضا نرى عمل الموظف الفاسد المفسد، الذي لا يأبه بالنخر في جسد الوطن بفساده، معتقدا بكل غباء أنه يسعى لتأمين مستقبل أولاده!!.

والحمد لله أولا وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني