علم النفس وقضايا الأحوال الشخصية

قضايا الأسرة
مقال أسبوعي ينشر كل سبت في جريدة الرياض

لا تكاد تمر بنا مدة من الزمن إلا ونسمع فيها عن حالات وقع فيها اعتداءات وحشية وعنف داخل محيط الأسرة من قبل الأب أو زوجته أو الأخ أو غيرهم من أفراد الأسرة الأقوياء ضد آخرين من ضعفائهم من أطفال ونساء.

وأعتقد أيضاً أن محاكم الأحوال الشخصية تعج بمئات القضايا التي لا يمكن نظرها بمعزل عن تفحص أحوال أطراف هذه الدعاوى من الناحية النفسية، والتوقف عند الأحداث والوقائع التي يسردونها في ثنايا دعاواهم أمام القضاء وهي في الحقيقة تكشف عن الكثير جداً من مواطن الخلل والاعتلال السلوكي النفسي.

كل ذلك يقودني إلى طرح قضية أعتقد تزايد أهميتها مع مرور الأيام وتعقيدات أحوال الناس؛ ألا وهي مدى ارتباط علم النفس بالقضاء عامة -وهذا سبق لي تناوله في مقال قديم- وبقضايا الأحوال الشخصية على وجه الخصوص، لارتباطها بالأسرة وتكوينها ولا يخفى مدى علاقة علم النفس السلوكي بالتربية والأسرة.

ومحاكم الأحوال الشخصية تعتبر من أهم المحاكم وأكثرها تأثيراً وخطراً على استقرار المجتمع والدولة؛ لأنها تعنى بقضايا الأسرة، والأسرة هي النواة للمجتمع ومنها يبدأ تماسكه وأمنه وقوته، وتبدأ كذلك دواعي سقوطه وضعفه. ومع هذه الأهمية القصوى فإن القضاء فيها يسير على نفس الطريقة الروتينية التي تسير عليها سائر المحاكم، ولا أعني قطعاً مسألة وقت إنجاز القضية الذي أولته وزارة العدل ومجلس القضاء أهمية وعناية ملحوظة؛ إنما أعني وجوب أن تكون تلك المحاكم متوافرة بالكوادر المؤهلين من المتخصصين في علم النفس والتربية والسلوك، القادرين على إدراك ما لا يدركه غير المتخصص -ولو كان قاضياً- من مؤثرات على الأحكام القضائية في النزاعات الأسرية.

فالغاية من محكمة الأحوال الشخصية لا ينبغي أن تكون مقصورة فقط على الفصل في نزاع أسري بأحكام قضائية يتم تنفيذها بالقوة الجبرية والعقوبات الزاجرة؛ بل أولى من ذلك وأهم أن تكون تلك المحاكم قادرة على استدراك ما يمكن استدراكه من أسر في طريقها للتهاوي والسقوط، وإصدار الأحكام والقرارات والإجراءات الواعية المدركة التي تبنى على فهم صحيح لسلوك أطراف القضية، وتنزيل الأحكام الشرعية على إشكالاتهم بما يتلاءم مع أحوالهم السلوكية ويكون أدعى لإصلاحهم.

ولعل من أدلة أهمية وخطورة هذه القضية حين نعلم أن معظم الجرائم التي تقع في المجتمع إنما تكون نتاج خلافات أسرية وأسر غير مستقرة.

كما أن الكثير من الخلافات الزوجية -إن لم يكن كلها- هي في حقيقتها بسبب اعتلالات نفسية وسلوكية تؤدي إلى عدم انسجام أو نفور بين الزوجين، أو بسبب إيذاء نفسي يكون أكثر ألماً من الإيذاء الجسدي يقود الزوجة غالباً إلى اللجوء للقضاء للمطالبة بالانفصال.

بل إنه في بعض القضايا المنظورة أمام القضاء قد يكون أحد طرفي الدعوى (زوجاً أو زوجة) غير مؤهل من الناحية النفسية والسلوكية التي تؤثر على كمال أهليته، ليكون طرفاً في دعوى لا يدرك بشكل تام نتائجها وآثارها. وهذا ما لا يمكن للقاضي في كل الأحوال إدراكه دون الاستعانة بمتخصص في علم النفس.

كذلك هناك مئات القضايا التي يكون الزوج غالباً فيها مبتلى بتعاطي بعض المؤثرات العقلية كالمخدرات والمسكرات والكحول، ويكون لذلك تأثيراً على سلوكه مع زوجته وأولاده، وتتحاشى الزوجة ذكر ذلك في دعواها صراحة لأسباب أهمها صعوبة الإثبات في بعض الحالات، أو الخوف من الفضيحة، أو الخوف من أذى الزوج وتهديده لها. وكل هذه القضايا لا يتعذر على المتخصص في علم النفس السلوكي إدراكها بمجرد فحص بسيط لشخصية لهذا الزوج وما يصدر عنه من سلوك.

فهل يتحقق ذات يوم أن يكون علم النفس باعتباره علماً مؤثراً، حاضراً في محاكمنا عامة ومحاكم الأحوال الشخصية خاصة ؟ هذا ما أتمناه.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني