قـــوة الحــــق

مقال أسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض

لما وُلي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الخلافة، قال في أول خطبة خطبها: "الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه".

لقد أعلن الصديّق -رضي الله عنه- في مقولته العظيمة أن الحق يصنع القوة ويمنحها للضعيف، وأن القوة لا تصنع حقاً ولا تحول دون استعادة حق.

لقد شغلت فلسفة الحق وفكرته فلاسفة العالم وعلمائه ومفكريه قديماً وحديثاً، وأفاضوا في الحديث عنها من كل جوانبها ومعانيها. وما ذلك إلا لعظمة هذا الحق وقدسية هذا المعنى العظيم.

ومن ذلك ما ثار من جدل بين الفلاسفة حول مسألة: هل الحق هو أساس القانون أم أن القانون هو أساس الحق؟

وفي الشريعة الإسلامية يقسم الفقهاء الحق إلى نوعين هما:

(حق لله تعالى وهو المقصود بالحق العام الذي يتعلق به مصالح الناس العامة الدنيوية والأخروية، وقد أضيف إلى الله تعالى لعموم نفعه وعظيم خطره) و(حقوق خاصة للعباد وهي ما يتعلق به مصلحة خاصة دنيوية للعبد مثل حرمة أكل مال الغير)، ومع ذلك فقد أكد الإمام القرافي -رحمه الله- أنه لا يوجد حق للعبد إلا وفيه حق لله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه، فليس هناك حق محض للعبد يخلو عن حق الله.

كما أن من المتقرر في الشريعة الإسلامية تعظيم شأن حقوق العباد فيما بينهم، حتى إنها مقدمة على حقوق الله سبحانه التي مبناها على العفو والمسامحة، ويمكن أن تمحوها التوبة، أما حقوق العباد فمبناها على المشاحة ولا تسقط إلا بأدائها لأصحابها.

كما تقرر الشريعة الإسلامية في كثير من نصوص الكتاب والسنة، أن حقوق العباد لا تسقط أبداً، وأن ما فات منها في الدنيا لا يفوت في الآخرة، بل يكون أداؤه يوم القيامة أعظم شأناً وأثقل وزناً وأشد إرهاقاً للمدين من أدائه في الدنيا. يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فُحمل عليه".

بل حتى في الجاهلية قبل الإسلام كان الناس يعظّمون شأن الحقوق ويستبشعون الظلم، ويتنادون لنصرة المظلوم على ظالمه حتى يعاد له حقه، وفي هذا يفخر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاركته قبل الإسلام في مثل هذا العهد والميثاق الشريف، فيقول عليه السلام: "لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جدعان حِلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت" وهي معاهدة أبرمها بعض قبائل قريش تعاهدوا فيها على مناصرة المظلوم على الظالم حتى يعاد له حقه.

وبمقدار قوة هذا الحق وعظمته، يأتي تحريم الله عز وجل للظلم، الذي يعتبر من أبشع الأعمال، وأقبح الخصال، وهو معول هدم يعمل على خراب الديار وسقوط الأمم والدول. جاء في الأثر أن كعب الأحبار قال: "إني أجد في كتاب الله المنزل أن الظلم يخرب الديار، فقال ابن عباس: أنا أوجدكه في القرآن، قول الله تعالى (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا)".

وكان من أعظم الأحاديث القدسية الحديث الذي كان راويه أبو إدريس الخولاني إذا حدّث به جثا على ركبتيه، والذي جاء فيه قول الله عز وجل "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا".

هذا هو (الحق) وهذه (قوة الحق) فالشريعة جاءت لتقرير الحقوق، والقضاء إنما شُرع لحمايتها، فلا وجود لأي دعوى قضائية دون وجود حق تحميه ويدور موضوعها حوله.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا القانون الإلهي الشرعي الكوني البشري (قوة الحق) يُطبّق على الوجه الصحيح في كل الأحوال؟ وهل الطريق الذي يسلكه صاحب الحق للمطالبة بحقه، طريق شاق معقد مكلف مادياً، مرهق معنوياً، محفوف بالصعوبات والعقبات؟ أم أنه طريق سهل معبّد لا يتطلب منه إلا التقدم للجهة المختصة نظاماً للمطالبة باستعادة حقه؟

ويمرّ بي بحكم عملي في المحاماة وقبلها في القضاء، بعض المواضيع الحقوقية التي يكون صاحب الحق فيها قد بذل جهوداً مضنية، وواجه صعوبات تفوق أحيانا قدرته البسيطة على الاحتمال، وذلك للوصول إلى حقه الذي لم يكن يتطلب إلا جهدا يسيرا لمعرفة أحقيته به وصحة ادعائه. فأين هو مصدر الخلل الذي ألجأ صاحب الحق إلى كل هذا الجهد والوقت، وعرّضه للمتاعب والصعوبات التي أرهقته ماديا ونفسيا؟.

إني حين أطرح هذه القضية لا أدعي أني أسعى لتحقيق حلم المدينة الفاضلة، وتنقية الحياة تماما من كل صور الظلم والمشقة والألم؛ ولكني أطرح تساؤلي لتحقيق غاية مشروعة واجبة التحقيق لا عذر لنا في إهمالها؛ ألا وهي أن تقوم كل جهة حكومية ممثلة بمنسوبيها وموظفيها بما عليهم من واجب حفظ الحقوق لأصحابها، وضمان حصولهم عليها دون مشقة بمجرد التثبت من أحقيتهم بها، سواء كانت تلك الجهات قضائية أو إدارية.

وأننا يجب أن نمتلك كافة الأدوات الصحيحة التي تكفل تذليل العقبات أمام أصحاب الحقوق للوصول إلى حقوقهم دون أن يلحقهم ما لا يطيقون من العناء.

وأن نعالج كل خلل يحول دون تحقيق هذه الغاية الشرعية الإنسانية التي هي سرّ بقائنا ومصدر قوتنا، ومعقد تحقيق الأمن والاستقرار في مجتمعنا. سواء كان هذا الخلل يتمثل في موظفين غير مؤهلين للتمييز بين الحق والباطل، أو الوصول إلى معرفة صاحب الحق الحقيقي من مدعي الحق.

وفي القضاء على كل موظف فاسد يثبت أنه حال بين الحق وصاحبه، أو عطّل وصوله إليه، أو ساومه على ذلك، أو أعان ظالماً على ظلمه.

يجب أن تكون هذه هي قضيتنا المقدسة، وغايتنا الأهم، وشعارنا الأول. وألا يشغلنا هذا الكم الهائل من الشكاوى والدعاوى والمطالبات القضائية وغير القضائية، عن تمييز الحق من الباطل، وكشف المظلوم من الظالم.

يجب أن نقضي تماما على تلك الصورة المقيتة القبيحة التي تكون فيها القوة مصدرا للحق، ولا يكون الحق مصدرا للقوة.

ويجب أن تتظافر كل الأنظمة والجهود والمسؤولين على تقوية الضعيف حتى يصل إليه حقه، وإضعاف القوي حتى يؤخذ منه الحق الذي غصبه.

ليس في شريعتنا أي نقص، ولا في أنظمتنا خلل، ولا في إرادة ولاة أمرنا أي تهاون أو تردد في تحقيق هذه الغاية السامية. إذا فالأرضية موجودة ولا ينقصها إلا التفعيل وسلامة التطبيق.

والحمد لله أولا وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني