منازعات الزكاة والضريبة وتقييد حق التقاضي

مقال أسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض

لا يختلف اثنان على أن حق التقاضي يعتبر من أهم الحقوق الشرعية والقانونية المكفولة للإنسان، وأن هذا الحق هو الأساس الذي يبنى عليه استرداد كافة الحقوق، لذا فيعتبر القاعدة التي يقوم عليها سائر الحقوق الإنسانية الأساسية. ولهذا يعرّف بعض شراح القوانين (الدعوى) بأنها: سلطة الالتجاء للقضاء. وأي حق يتم انتهاكه من الحقوق الشرعية أو القانونية، فإن حق التقاضي يكفل مواجهة هذا الانتهاك.

وقد أجمعت على احترام حق التقاضي جميع الدساتير والمواثيق الدولية، وقبل ذلك أحكام الشريعة الإسلامية. بل بلغ من اهتمام فقهاء الشريعة بهذا الحق أنهم يؤكدون دوما في تناولهم لأحكام القضاء، على أهمية أن يكون المكان الذي يجلس فيه القاضي، مكانا شهيراً بارزاً وسط البلد، ليتمكن كل ذي حاجة من الوصول إليه والاستدلال عليه.

وقد تضمن النظام الأساسي للحكم في المملكة التأكيد على هذا الحق في المادة السابعة والأربعين من النظام التي نصت على أن: "حق التقاضي مكفول بالتساوي للمواطنين والمُقيمين في المملكة، ويُبين النظام الإجراءات اللازمة لذلك".

ولا يعتبر حق التقاضي مكفولاً على الوجه الصحيح إلا بضمان تكافؤ الفرص أمام الجميع في حق الالتجاء للقضاء، وعدم التمييز بين المتقاضين أيا كانت مراكزهم أو صفاتهم. وهذا ما أكدته المادة الثامنة من النظام الأساسي للحكم بأن "يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية".

ومن ضمان حق التقاضي إزالة أي عوائق مادية تحول دون ممارسة هذا الحق، فلا يجوز أن يكون الوصول إلى القضاء محمّلا بأعباء مالية يكون من شأنها أن تعطل الحق في التقاضي، حتى ولو كان ذلك في مرحلة من مراحل الطعن على الأحكام، لأن طرق الطعن على الأحكام لا تعتبر مجرد وسائل إجرائية ينشئها المنظم ليوفر من خلالها سبل تقويم ومراجعة تلك الأحكام، بل هي في واقعها أوثق اتصالاً بالحقوق التي تتناولها.

ومن الإخلال بهذا المبدأ الأساسي ما تضمنه نظام ضريبة الدخل الصادر عام 1425هـ في ترتيب إجراءات الطعن والاعتراض على قرارات الربط الضريبي الصادرة عن مصلحة الزكاة والدخل، والتي أضيف لاحقا شمولها كذلك لإجراءات الاعتراض على قرارات الربط الزكوي، حيث نصت المادة (66) فقرة (هـ) من هذا النظام على أنه: "يجب على المكلف الذي يريد استئناف قرار لجنة الاعتراض الابتدائية، التقدم بطلب الاستئناف خلال المدة المحددة، وتسديد الضريبة المستحقة وفقاً للقرار المذكور، أو تقديم ضمان بنكي مقبول بالمبلغ".

وهذا النص يعني أنه لا يعتبر استئناف المعترض على قرار اللجنة الابتدائية مقبولاً شكلاً؛ ما لم يسدد المبلغ الوارد في قرار اللجنة أو يقدم به ضماناً بنكياً. وهذا ما تعمل به اللجنة الاستئنافية التي جرت أحكامها على عدم قبول الاعتراضات شكلا حين يتخلف المعترض عن الوفاء بهذا الشرط.

وعلى رغم ما نص عليه النظام من أنه يجوز الاعتراض على قرار اللجنة الاستئنافية أمام ديوان المظالم، وأن قرارها لا يكون نهائيا عند الاعتراض عليه إلا بصدور حكم نهائي من ديوان المظالم بذلك؛ إلا أن هذا النص النظامي ألزم الطرف المعترض بسداد ما صدر عن اللجنة الابتدائية من مبالغ، مهما كان حجم مبلغ المطالبة.

وما من شك أن هذا القيد الثقيل الذي ورد في النظام يعتبر مخالفة صريحة للمبدأ الحقوقي الإنساني الشرعي القانوني، ألا وهو مبدأ (كفالة حق التقاضي) والذي أكده النظام الأساسي للحكم في مادته (47).

كما أن هذا النص النظامي قد خرق مبدأ آخر وهو مبدأ المساواة بين المتقاضين، إذ يحق لمصلحة الزكاة والدخل أن تعترض أمام كل من اللجنة الاستئنافية أو ديوان المظالم، دون قيد يحول بينها وبين ممارسة هذا الحق، بينما الطرف الذي يقاضيها يُفرض عليه القيد المذكور، وفي كثير من الأحوال يحول بينه وبين ممارسة حق التقاضي، إذا كان المبلغ الصادر عن اللجنة الابتدائية كبيراً وغير مقدور للمعترض.

وقد اطلعت على أحد الأحكام القضائية الصادرة عن ديوان المظالم، فوجدته قد انتصر لمبدأ (حق التقاضي) و(المساواة أمام القضاء) وقرر هذا الحكم عدم مشروعية النص النظامي الوارد في نظام ضريبة الدخل.

وهذا الحكم القضائي يؤكد جانباً مهماً وأساسياً من الدور المنوط بالقضاء الإداري، وذلك ببسط الرقابة الدستورية السلبية على الأنظمة، والحكم على خلاف النص النظامي الذي يثبت مخالفته للنظام الأساسي للحكم، أو لأحكام الشريعة القطعية. ومما تضمنه الحكم المميز ما نصه: "ولا ريب بأن وجود نص نظامي يشترط على الخصم دفع المبلغ المحكوم به أو تقديم ضمان به، كقيد لقبول استئنافه على الحكم؛ يعني في الواقع منع المعسر من استكمال مراحل التقاضي، وعرقلة التجائه لقضاء الدرجة الأعلى، ويصادم ما قرره النظام الأساسي للحكم الذي جعل حق التقاضي حقا مطلقا، غير مقيد بدفع رسوم أو ضمانات أو حجز أي مبالغ متنازع عليها". (الحكم في القضية رقم 3076/2/ق لعام 1432هـ).

إن هذه المسألة من الأهمية بمكان ينبغي سرعة تداركها، وتصحيح ما فيها من عوج، والعودة إلى المبادئ الأساسية الشرعية والحقوقية التي أكدها النظام الأساسي للحكم.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني