اللغة القانونية في مأزق
حين تكلم فقهاء الشريعة – رحمهم الله – عن شروط الاجتهاد والفتوى ذكروا جملة من الشروط والمعارف التي يجب أن تتوافر في الفقيه حتى يكون من أهل الاجتهاد والفتوى. وهذه الشروط عند التأمل ترجع كلها إلى نوعين من المعارف لابد للفقيه أن يحيط بها وهما: 1- المعارف اللغوية. 2- المعارف الشرعية. وهذا يوضح أهمية العلم باللغة العربية في باب استنباط الأحكام من النصوص الشرعية التي جاءت بلغة العرب سواء القرآن الكريم أو أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم. وهذه المسألة لا تحتاج إلى مزيد بيان أو تعليق لأنها من أبجديات العلم الشرعي. لكني أرى الحاجة ماسة للحديث عن أهمية العناية باللغة على وجه الخصوص لكل متخصص في الشريعة أو القانون والأنظمة، ولا أعني معرفة ظاهر اللغة أو القدرة على الكتابة دون خطأ أو التحدث دون لحن, فهذا مما يجب على كل متعلم، وإنما أعني أن يكون المتخصص في الشريعة أو القانون قادراً على الكتابة الشرعية والقانونية المتخصصة وعارفاً بمدلولات الألفاظ بشكل احترافي يمكنه من أداء دوره سواء كان قاضياً عبر كتابة الأحكام أو محامياً عبر صياغة العقود وإعداد المذكرات القانونية أو مستشاراً يسهم في صياغة نصوص الأنظمة وهو أولى هؤلاء بإتقان اللغة ومعرفتها. ذلك أن من المعلوم أن اللغة القانونية تختلف تماماً عن اللغة العادية من حيث ضرورة التزامها بأمرين هما: 1- الوضوح والدقة والبعد عن الألفاظ المثيرة للبس. 2- الإحاطة بكل جوانب المعنى المراد مع الإيجاز في العبارة. لذا فإن وجود أي قصور أو غموض أو ضعف في اللغة القانونية يؤدي تلقائياً إلى التأثير سلباً على التطبيقات الواقعية ويوقع في النزاعات التي تثور بسبب الاختلاف على تفسير النصوص, كما يوقع في خسارة الدعوى للطرف الذي أقامها على أساس تفسير النص لصالحه، وأسوأ من ذلك كله أن وجود الغموض أو القصور في صياغة الأنظمة يعدُ بيئة مشجعة على الفساد الإداري، وهو ما سبق لي أن أكدته في مناسبات سابقة. وأقصد باللغة القانونية تحديداً ثلاثة أنواع أساسية لكل منها ما يميزه من حيث الأسلوب والغاية والتركيب وهي: أ- اللغة القانونية الأكاديمية: ويندرج تحت ذلك لغة المجلات البحثية الأكاديمية القانونية وكذلك الكتب المنهجية الخاصة بتدريس القانون. ب - لغة القضاء: ويشمل لغة الأحكام التي تصدرها المحاكم و الكتب التي تتناول القضايا القانونية والتقارير القانونية ومذكرات المحامين. ج - لغة التشريع: وتتألف من الوثائق القانونية النمطية مثل القوانين والأنظمة والمراسيم والعقود والاتفاقيات والمعاهدات، حيث يكون الهدف الرئيس تحديد مجموعة من الالتزامات والمحظورات. وحتى يتبين مدى المأزق الذي تعيشه اللغة القانونية بجميع أنواعها لدينا في المملكة يكفي استقراء الكتابات القانونية سواء الأنظمة الموجودة أو العقود التي تثير من النزاعات بين أطرافها أكثر مما تغلق، أو في صياغة كثير من الأحكام القضائية أو المذكرات القانونية، وكل هذه الأنواع تنبئ بمستوى هذا الضعف اللغوي مما يوجب التنبه له والاهتمام به والحرص على معالجته. ولقد مر بي خلال عملي في القضاء كثير من نصوص الأنظمة التي تمت صياغتها بعبارات موهمة وبأسلوب غير دقيق ولا يتفق مع ما يجب أن تكون عليه القاعدة القانونية من وضوح ودقة وإيجاز، ونتج عن هذا الضعف اختلاف في تفسير هذه النصوص حين تكون محلاً للاحتجاج واستنباط الأحكام وقد حصل ذلك في كثير من الوقائع التي لا يتسع المجال لإيراد شيء منها. إن اللغوي المتخصص في اللغة وعلومها ودلالات الألفاظ غير مطالب بالتخصص في الشريعة أو القانون لكن العكس صحيح وهو أن الفقيه المتخصص في الشريعة أو القانون مطالب بالإلمام بعلوم اللغة ودلالات الألفاظ بما يخدم تخصصه ويجعله مؤهلاً للكتابة فيه أو الاستنباط من نصوص الشريعة أو الأنظمة وفقاً للأصول الصحيحة للاستنباط ودلالات الألفاظ. وفي ميدان صياغة الأنظمة نجد أنها تصاغ ابتداء عبر لجان مُشكَّلة في هيئة الخبراء في مجلس الوزراء وهذه اللجان مؤلفة من أعضاء يُمثِّلون كل الجهات ذات العلاقة التي يعنيها النظام محل الإعداد، إلا أنك لا تكاد تجد من بين أعضاء هذه اللجان واحداً ممن لهم إلمام بعلم اللغة العربية ودلالات الألفاظ، فضلاً عن أن تجد متخصصاً في اللغة القانونية وفي أصول الكتابة القانونية مدركاً للمصطلحات القانونية التي يتضمنها هذا النظام، ولذا فإن كثيراً من الأنظمة تأتي على شكل هزيل ركيك الصياغة مشتملة على الحشو في الكلام وتفسير الماء بعد الجهد بالماء، فلماذا لا يكون من بين أعضاء هذه اللجان من هو متخصص في اللغة العربية؟ ولماذا لا يتم توجيه بعض طلاب اللغة العربية لدراسة تخصص اللغة القانونية، أو توجيه بعض طلاب كليات الشريعة والقانون لدراسة اللغة القانونية والتعمق فيها بعد إحاطتهم بالمصطلحات القانونية العامة لأن ذلك مما تمس الحاجة إليه.وعند الحديث عن اللغة القانونية تأتي هنا معضلة أخرى في هذا الجانب وهي مشكلة الترجمة القانونية سواء ترجمة العقود أو ترجمة البحوث أو ترجمة الأنظمة فإن هذا الجانب مما يعاني فراغاً كبيراً في المملكة إذ قلَّما تجد المتخصص الذي يتقنه ويُطمئن إليه فيه، وكم ضاعت الحقوق بسبب ضعف هذا الجانب، حيث تنظر المحاكم التجارية يومياً مئات النزاعات التي تنشأ عن عقود مكتوبة باللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية، ويتولى ترجمة هذه العقود أطراف القضايا عن طريق مكاتب الترجمة الموجودة حالياً وهي هزيلة لا يوثق في ترجمتها، فإن كان أحد أطراف النزاع عارفاً بخطأ الترجمة فقد ينبه القاضي إليه، وإن كان جاهلاً أو متواطئاً مع الطرف الآخر فقد يبني القاضي حكمه على ترجمة خاطئة وقد مر بي أيضاً أثناء عملي في القضاء شواهد على ذلك. وفي جانب إعداد الأنظمة وصياغتها أيضاً تبرز الحاجة الماسة لوجود متخصصين في الترجمة القانونية ضليعين في هذا التخصص وذلك لسببين هما: 1- أن كثيراً من الأنظمة لدينا وفي سائر الدول العربية مأخوذة من أنظمة أجنبية عن طريق الترجمة والتعديل والقص واللزق، وهذه الأنظمة الأجنبية تحتوي على مصطلحات قانونية خاصة بالنظام القانوني الذي يرجع إليه نظام تلك الدولة التي نريد الاقتباس من نظامها، وهذا يستدعي وجود متخصص في اللغتين المترجم منها وإليها، ولا يكفي تخصصه في اللغتين عن معرفته بالمقصود من المصطلحات القانونية الواردة في نظام اللغة الأجنبية والذي لا يعرف إلا بمعرفة النظام القانوني لتلك الدولة، إذ من المعلوم أن المصطلح القانوني لا يُفهم من مجرد السياق الوارد فيه. 2- أنه في ضوء الاتجاه الدولي لتوحيد القوانين في مختلف أنحاء العالم ووضع الاتفاقيات الدولية الملزمة والاتجاه إلى العولمة أصبحت كل دولة لا تستطيع سن قوانينها بمعزل عن القوانين والاتفاقيات الدولية. وهذه الاتفاقيات الدولية تصاغ أساساً باللغة الإنجليزية مما يوجب وجود ترجمة دقيقة وصائبة لنصوص هذا القانون أو المعاهدة. ولا يكفي في الترجمة القانونية أن يرجع المترجم إلى قاموس اللغة المترجم منها لأن الكلمة في الوثيقة القانونية تكتسب معنى محدداً مرتبطاً بالسياق الذي ترد فيه, لذا فإنه ليس عذرا للمترجم أن يكون المعنى الخطأ الذي ترجمت إليه الكلمة موجودا في القاموس لأن الوثيقة القانونية قد تكون بمثابة القاموس الخاص لكلماتها، حيث ترتبط معاني الكلمات بالدلالات التي تعطيها الوثيقة ذاتها، وربما لهذا السبب تحتوي الوثائق القانونية - كالعقود والاتفاقيات - على قسم خاص يحدد معنى كلماتها المحورية وتعرف هذه المادة باسم ''تعريفات''. وتذكر بعض المصادر أنه في عام 1973 شكلت الحكومة البريطانية لجنة لدراسة مسألة ''إعداد التشريع'' ولاقتراح الاصطلاحات التي تستهدفُ تحقيق قدر أكبرَ من الوضوح والبساطة، وقد تلقتْ اللجنة شواهد من القضاة والجهات التي تُمثـل المهن القانونية وأعضاء بارزين من الجمهور، فتبين لها أن الشواهد أوضحت وبشكل كاسح أن أغلب التشريعات تفتقر إلى الوضوح والبساطة، وتوقع في كثير من الأخطاء والتجاوزات في التطبيق. ومن المسائل التي يجب التنبه لها أيضاً عن صياغة الأنظمة أن القانوني حتى لو كان مُلماً بعلوم اللغة فإنه يجب عليه الرجوع إلى أهل الاختصاص في كل شأن من الشؤون لمعرفة ما لديهم من مصطلحات ومدلولاتها قبل أن يقوم بإعداد نظام موجه إليهم أو ترجمة وثيقة قانونية متخصصة، وذلك لما يتسم به العصر الحديث من تنوع معرفي يجعل كل متخصص في علم من العلوم أمياً في العلوم الأخرى، بل حتى العلم الواحد يشتمل على فروع دقيقة لكل فرع أهله المتخصصون فيه، ولا يمكن مطلقاً للغوي أو الفقيه أو القانوني أن يكون محيطاً بهذه العلوم والفنون المختلفة. وقبل أن أختم حديثي عن اللغة القانونية أحب التنبيه على مسألة أخرى خطيرة ومهمة وخطأ موجود يمارس يومياً في أروقة المحاكم ولا يظهر لي أن هناك بارقة أمل لتصحيحه مع مساسه الخطير بحقوق الإنسان المتمثلة في حقوق المتهمين الذين تتم محاكمتهم يومياً من غير الناطقين بالعربية، ذلك أن محاكمتهم تتم عن طريق مترجمين متعاونين مع المحاكم ليسوا من الموظفين في المحكمة غالباً وإنما يتم استدعاؤهم عند الحاجة، وهؤلاء المترجمون غالباً ليسوا على تأهيل كاف لهذه المهمة الجسيمة، بل قد مر بي أثناء عملي في المحاكم الجزائية في ديوان المظالم أن يتولى الترجمة شخص ليس من الناطقين بلغة المتهم وإنما يكون المتهم يفهم ولو قليلاً من اللغة الإنجليزية فيتولى المترجم ترجمة دفاعه حسبما يفهمه منه ويحصل أن نرى كثيراً صعوبة في التفاهم بين المترجم وبين المتهم، وخطورة هذه المسألة لتأثيرها الكبير على أهم ضمانات المتهم وهي حق الدفاع الشرعي الذي يحال بينه وبينه لعدم وجود مترجم كفء. هذا حديث عن اللغة القانونية عامة وفي المملكة على وجه الخصوص وهو حديث ذو شجون موجه إلى المختصين وصانعي القرار في هذا الجانب راجياً أن يكون له أثر حسن على التنبه لهذا الجانب المهم وسد الثغرة الكبيرة فيه، والله المستعان.