إنما تقضي هذه الحياة الدنيا
حين كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقوم بدور القاضي في الحكم بين أصحابه فيما اختلفوا فيه، أسس للقضاة بعده قواعد العدالة وأصول الإجراءات القضائية التي لا يجوز الحياد عنها، ولا التهاون في تطبيقها.
ومن أعظم المبادئ التي أرساها عليه الصلاة والسلام قوله في الحديث الصحيح: "إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشرٌ مثلكم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحكم له بقدر ما أسمع من حجته، فمن قضيتُ له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".
وهذا الحديث العظيم وغيره من النصوص الشرعية الثابتة، تدل دلالة قطعية أن حكم القاضي في الدنيا ليس نهاية المطاف، وأن كلّ حق اغتصبه ظالمٌ في الدنيا، فلن يكون حكم القضاء له به منجياً من العذاب والحساب الشديد في الآخرة.
وفي الحديث العظيم الذي رواه عبدالله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما قال: لما نزلت (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) قال الزبير: يا رسول الله أتُكرّرُ علينا الخصومة بعد الذي كان في الدنيا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال: إن الأمرَ إذاً لشديد".
وهذه القاعدة العظيمة متقررة واضحة في الشريعة الإسلامية، بأن أي حق اغتصبه أحد الخصوم من خصمه بقوة القضاء، أنه يعاد يوم القيامة لصاحبه يوم لا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات، يوم يتمنى المرء حسنة واحدة تعطى له، أو سيئة واحدة تحمل عنه، حتى تبلغ الحال بالخلائق أن يتمنى المرء لو يفتدي من العذاب بأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فيتمنى لو أنهم ألقي بهم في عذاب جهنم فداء له لينجو منها، نسأل الله العظيم رحمته وغفرانه.
وإذا كان هذا الحكم والقاعدة الشرعية في حق الخصوم الذين يظلم بعضهم بعضاً، ويبغي بعضهم على بعض، فكيف تكون الحال بالقاضي الذي يتصدى للفصل بينهما في هذه المحاكمة؟! إنه والله لأمر عظيم خطير، فهل يعي كل قاض مدى خطورته؟ وهل يحسب له حسابه؟
لقد أخبرنا الله عز وجل عن سحرة فرعون حين أعلنوا إيمانهم مع موسى عليه السلام، فتوعدهم فرعون بالعذاب والقتل والصلب، أنهم أجابوه جواباً إيمانياً عظيماً، يعتبر قاعدة لكل من تولى الحكم في الدنيا على غيره، إذ أجابوه بالكلمة العظيمة المرعبة: (.. فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي أن سلطانك وقدرتك لا تتجاوز هذه الحياة الدنيا، أما الآخرة فلا سلطان ولا قدرة إلا لله عز وجل، ويكون الحكم له سبحانه على ما حكمت به علينا في الدنيا يا فرعون.
لئن كان القاضي إنما نصبه الله عز وجل في الدنيا ليحجز بين الخصوم فلا يظلم بعضهم بعضاً، ولا يبغي بعضهم على بعض، فإن انتقامه سبحانه من هذا القاضي متى أخلّ بواجبه، ونسي خطر مهمته، وتولى بنفسه ظلم أحد الخصوم والحيف مع أحدهما ضد الآخر، سيكون انتقاماً عظيماً، وعذاباً أليما، لأنه إنما أصدر حكمه مدعياً أن هذا هو حكم الشريعة، فهو يفتري على الله الكذب، متى ما كان يعلم أن ما حكم به ليس كذلك، إنما هو حكم الجهل أو الهوى.
ويزداد الأمر خطورة والمسؤولية ثقلاً، على القاضي الذي يكون حكمه نهائياً ليس وراءه جهة قضائية أعلى تدقق حكمه وتستدرك عليه، لأنه حينئذ لا تدقيق لهذا الحكم إلا يوم القيامة عند أعدل العادلين سبحانه.
وإذا كان القاضي في الدنيا يملك جزئياً الحكم بين المتخاصمين، فإن يوم القيامة لا يكون الحكم إلا لله سبحانه، فيقضي بينهم بعدله، وهو سبحانه الذي حرّم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما.
مسكينٌ ضعيف، من ظنّ أن سلطته وقدرته في الدنيا، تجيز له أن يستعلي على العباد، وينظر إليهم شزراً، ويخاطبهم بطرف لسانه، ويستمتع بممارسة صور السلطة عليهم في غير ما شرعها الله لأجله، فسلطة القاضي في الشرع والنظام إنما أعطيت له لتحقيق العدل، ومنع ورفع الظلم، لا للانتصار للنفس، ولا لقهر الخلق.
أيها القاضي المنتصب على منصة القضاء: اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
أسأل الله عز وجل أن يمنّ علينا بالعدل، وأن يحمينا ويبعد عنا الظلم، وأن يصلح عمل قضائنا وقضاتنا، ويجعلهم حراساً للعدالة، سدوداً في وجه الظلم والجهالة آمين.