واحدٌ من أربعة يخرج من المحكمة راضياً
دوماً يستشهد الناس في سخطهم على المحاكم وأحكام القضاة بالحديث الصحيح :(القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة) ويقفون عند هذا الجزء من الحديث فلا يعرفون آخره كما يحفظون أوله. ويخطئون في فهمه وتفسيره، فيظنون أن هذا الحديث قسم القضاة إلى ثلاثة أقسام بالعدد، وجعل ثلثي القضاة في النار وثلثهم في الجنة؛ بينما التقسيم في الحديث إنما هو للنوع لا للعدد، ويكشف المقصود به آخر الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "فأما الذي في الجنة: فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجلٌ عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وعن هذا الحديث يقول الإمام ابن القاص: فصحّ أن ذلك في الجائر والجاهل الذين لم يؤذن لهما في اجتهاد الرأي والقضاء.. وكيف يُعذّب بالنار مأذونٌ له في الاجتهاد أمّ الحق فأخطأه! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
وإذا كان الناس دوماً يرددون ذلك في أحاديث مجالسهم؛ إلا أن قليلاً جداً منهم لا يكلفون أنفسهم بالتفكير في أصناف المتعاملين مع المحاكم وتقسيمهم، بينما هذه القضية تستحق أن يدركوها جيداً، لأنه ليس من المتصور أن يخرج الطرف الخاسر في الدعوى القضائية، الذي صدر الحكم على خلاف طلبه ورغبته وقناعته -أو هواه-رراضياً عن القضاء والقضاة، مثنياً عليهم -رغم حكمهم عليه لا له- وهذا يقودني إلى نقل فائدة جميلة سمعتها من أحد أصحاب الفضيلة القضاة الفضلاء أثناء حوار لي معه حول هذه القضية، إذ يقول فضيلته: إن الذي يرضى عن القضاء والقضاة في الحقيقة هو الطرف المحكوم له بطلباته، وهنا يجب أن نعرف أن واحداً من أربعة فقط هو الذي يحكم له القضاء بما طلب؛ ذلك أن المتقاضين أمام القضاء على أربعة أنواع:
كاذب في دعواه، فهذا يخسرها، ويحكم القضاء ضده.
وصادق في دعواه إلا أنه ليس لديه بيّنة على ذلك، فهذا أيضاً يخسر دعواه.
وصادق في دعواه ولديه بيّنة؛ إلا أن بيّنته غير موصلة ولا تكفي للحكم له، فهذا أيضاً يخسر دعواه.
وصادق في دعواه عنده بيّنة موصلة تصلح لإثبات دعواه، فهذا هو الذي يحكم له القضاء فقط.
وهذا التقسيم باعتبار الأصل، وإن كان قد يختلف باختلاف قدرة بعض الخصوم على لحن الحجة وقوة المرافعة والقدرة على التلاعب بالحقائق، ويختلف أيضاً باختلاف مستويات القضاة من الفهم والعلم. لكن من حيث العموم فإنا نرى بالفعل كثيراً من الناس ينسبون الخطأ إلى أحكام القضاء، ويكثرون من لوم القضاة بل وأحياناً اتهامهم، بينما عند التدقيق نجد هذا اللائم هو الملوم المذموم، لكونه أحد الأصناف الثلاثة المذكورين الذين لا يحكم لهم القضاء، بينما هو لا يدري عن ذلك، ويظن أن القضاء هو المخطئ.
وهذا يفسر لنا مستوى النقد والسخط الكبير الذي نجده عند عموم الناس على القضاء وأحكامه. وكثيراً ما يتصل بي بعض الإعلاميين يطلبون مني التعليق على حكم ٍ قضائي ٍيريدون انتقاده ويرونه ظالماً، وعندما يعرضونه علي يتبين أن الخلل في فهمهم لمرتكزات الحكم وأسباب لا في الحكم ذاته.
وهنا تبرز الفروق الكبيرة بين المحامين في الأداء أمام المحاكم، إذ يجيد بعضهم إبراز حجج موكله، وتقوية موقفه، بينما يخفق البعض في ذلك فيضيع الحق على موكله وهو صاحب حق.
والحمد لله أولاً وآخراً.