في نشر ثقافة الحقوق.. لنبدأ بالأجهزة الحكومية
قبل مدة وجيزة صدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – على برنامج نشر ثقافة حقوق الإنسان، الذي تقوم عليه هيئة حقوق الإنسان بموجب نظامها الأساسي. ويهدف هذا البرنامج إلى تعريف المواطن بحقوقه عبر أجهزة الإعلام والتربية والتدريب المتنوعة. ويأتي هذا التوجيه الكريم والتوجه المبارك لخادم الحرمين الشريفين – حفظه الله- امتداداً لمنهجه في النهوض بمستوى الوطن والمواطن، عبر منظومة متكاملة من حفظ الحقوق، ومحاربة الفساد، ومحاسبة المقصر، لما بين هذه الأهداف السامية من ترابط وثيق بحيث لا يتحقق بعضها دون تحقيق الباقي. كما أن هذا التوجه الكريم يأتي امتثالاً وتطبيقاً عملياً لأحكام الإسلام، وسيراً على نهج الخلافة الإسلامية الراشدة، التي تسعى لرفع المظالم عن الرعية وحفظ حقوقهم من أي اعتداء أو انتقاص، استشعاراً للمسؤولية العظيمة الواجبة على من ولاه الله أمراً من أمور المسلمين العامة أو الخاصة. ومع أهمية هذه الخطوة الموفقة المباركة، ومساس الحاجة إليها، خاصة في هذه المرحلة التي أصبحت الدول الحديثة تتسابق فيما بينها في التباهي بحفظ حقوق الإنسان والتماشي مع التطبيق التام للإعلان العالمي لمبادئ حقوق الإنسان، وأن ذلك أصبح بمثابة الميزان والمقياس الذي يقاس به التقدم والحضارة في أي دولة، وأنه كلما كانت الدولة متأخرة في هذا الميدان اعتبرت من الدول المتخلفة عن الركب، مهما كان مقدار ما تملكه من ثروات مادية. إلا أنه مع ذلك فإن من المهم جدا التنبيه على أن الواقع المؤسف أن المواطن يعتبر العنصر الأضعف في هذه المنظومة، وأن مجرد توعيته بحقوقه وتعريفه بها لا يقوده إلا إلى مزيد من الألم والضعف والإحساس بالظلم أو القهر أحياناً، إذا لم تسبق ذلك توعية الأجهزة الحكومية وجهات الإدارة وغيرها من الكيانات الكبيرة التي تقوم على تشغيل المرافق العامة، التي تمس مصالح المواطن وضروراته وحاجاته المعيشية ؛ توعية هذه الجهات بأن لهذا المواطن حقاً تكفله الشريعة أولاً، ثم تكفله الأنظمة التي شرعتها الدولة لتنظيم حياة الناس وتحديد الآلية التي تتعامل بها هذه الأجهزة مع المواطن، والكيفية التي يسلكها المواطن للحصول على أي حق له لدى هذه الجهات الحكومية. وبغير توعية الأجهزة الحكومية والمسؤولين فيها والقائمين عليها مهما علت مراتبهم، بضرورة جعل المواطن أو الفرد عموماً سواء كان مواطناً أو مقيماً، جعله محور اهتمامهم، والتأكيد على أن المشروعية التي يستندون إليها في وجودهم في هذه الوظائف، هو تلبية حاجة هذا الفرد وتنظيم مصالحه، بما يحفظ له كل حقوقه وكرامته واستقلاله وأمنه وصحته وقبل ذلك دينه ووعيه وثقافته. وبغير ذلك تبقى توعية المواطن وحده بهذه الحقوق وسيلة لزيادة حزنه وهمه. ولتوعية الأجهزة الحكومية بحقوق المواطن عدة مسارات من أهمها: أولاً: تكثيف التدريب والتوعية لموظفي ومسؤولي هذه الإدارات على وجوب التحلي بالأخلاق الإسلامية وآداب اللياقة في التعامل، خاصة من يتطلب عملهم مقابلة الجمهور من المراجعين والاحتكاك بهم مباشرة ، حيث لا يمكن أن يُقبل من موظف أو مسؤول أن يتعامل بفوقية وتعال مع المراجعين لإدارته، أو أن يتباطأ في تقديم الخدمة الواجبة عليه لهم بما يتفق مع نظام الجهة التي يعمل بها، فمن المعروف للجميع بأن كل من تُلجئه حاجته إلى مراجعة جهة حكومية أو خاصة يبتدئ أول خطوة بالسؤال عن شخص يعرفه في تلك الجهة لغرض تسهيل حصوله على أبسط حقوقه. فإن لم يجد له في تلك الإدارة واسطة اضطر للخضوع والخنوع والقبول بالأمر الواقع من تعامل غير لائق أحياناً، أو رفع الصوت في وجهه، أو تجهم وتأفف الموظف أمامه، أو على أحسن الأحوال يضطر لقبول تمنُن الموظف الذي يَعتبر إنجازه لمعاملة هذا المراجع مكرمة منه عليه، بحيث أنجزها له دون تأخير مثلاً، أو دون أن يحوجه لدفع غرامة يزعم أنها مقررة، أو غير ذلك. فلا يجد المراجع المغلوب على أمره إلا الاستسلام لكل تلك التجاوزات وابتلاعها في سبيل خروجه من هذه الإدارة بأقل الأضرار والتكاليف! وذلك لأن أغلب الجهات الحكومية لدينا تعمل في غياب تام للشفافية، حيث لا يستطيع المراجع لها التنبؤ بما قد يواجهه من عقبات أثناء مراجعته لتلك الجهة. والسبب الرئيس لذلك إما لضعف صياغة الأنظمة وركاكتها، أو لكثرة ما يطرأ عليها من تعديلات أو استثناءات بحيث يجد الموظف الفاسد في نصوص النظام حجة لكل خطيئة أو مخالفة يرتكبها بحق المراجع. إن حفظ حقوق الناس وكراماتهم والوقوف بصرامة في وجه أي اعتداء على ذلك هو من أوجب الواجبات على الأجهزة الرقابية للدولة خاصة (هيئة الرقابة والتحقيق – وهيئة التحقيق والادعاء العام) كل منهما في مجالها, ومن الإنصاف القول إن هاتين الهيئتين تقومان بدور فاعل وملموس في تحقيق العدالة وحماية النزاهة ومحاربة الفساد وإن كانتا تحتاجان إلى مزيد من الدعم والتطوير لأنظمتهما وتحديث الآلية التي تعملان بها للقيام بالمهمة على وجه أفضل. ثانياً: إن من أخطر المسائل التي يجب الالتفات إليها، والحذر من التساهل فيها، مسائل التوقيف والتفتيش والقبض التي يمارسها رجال الأمن بحق الأفراد، وأن هذه المسائل لتعلقها ومساسها بحريات الناس وأمنهم وكرامتهم وحقوقهم، يجب إحاطتها بالكثير من الاحتياط والحذر، وألا تترك هذه المسألة لاجتهادات الأفراد، حتى ولو كانوا مسؤولين في الجهات الأمنية، وإنما يجب الالتزام التام والتقيد الكامل بنصوص نظام الإجراءات الجزائية، والذي صدر لتحقيق هذه الغاية المهمة والجسيمة المتمثلة في حفظ حقوق الناس وصيانة أمنهم وكرامتهم وحرياتهم أن تنتهك. ومع ذلك فقد مر بي كثير من الوقائع التي تنطوي على تجاوزات غير مسؤولة للحدود التي أوجب هذا النظام التقيد بها، إما بحجة ضبط الأمن، أو بحجة محاربة الجريمة، أو بغير ذلك من الحجج. وهذه المسألة من أولى وأهم واجبات هيئة التحقيق والادعاء العام التي تقوم أيضاً بدور مشكور في ذلك, لكنها لا تزال تعاني بعض أوجه النقص والقصور في تحقيق التقيد التام بنصوص نظام الإجراءات الجزائية المتعلقة بهذه الجوانب. ثالثاً: من أهم أوجه نشر الثقافة الحقوقية لدى الجهات الحكومية، أن يُعقد لموظفي الدولة في مختلف القطاعات دورات وورش عمل، وندوات ومحاضرات، تهدف إلى التحذير من الفساد الإداري، وإيضاح ما يترتب عليه من آثار وخيمة على الدولة ومقدراتها والمواطنين وحقوقهم، في النواحي الأمنية أولاً، ثم في النواحي الاجتماعية والاقتصادية، وأن يوضح لهم بالإحصائيات والدراسات الآثار السيئة للفساد الإداري، ووجه الارتباط بينه وبين الفقر والبطالة وتفشي الجريمة، وانتشار الطبقية الاجتماعية في المجتمع وتفكك الدولة وضعفها، وحرمان المواطن من المشاريع الإنمائية وتحقيق أي نهضة اقتصادية أو معيشية، وأن هذه المسائل من الخطورة بمكان حيث لا يكاد أحد يسلم من تبعاتها، بل تمتد للتأثير في حياة الأجيال المقبلة. وتركيز التوعية بين موظفي الدولة على هذا الجانب مع الاستعانة بحملة توعية دينية كبيرة تُبيِّن موقف الشريعة من الفساد الإداري وتحريمها لشتى صوره ووسائله، وما يترتب عليه من إثم وعقوبة وآثار سيئة في الدنيا والآخرة، من شأن ذلك – بإذن الله – أن يسهم في التعاطي مع ملف حقوق المواطن بشكل أفضل، وأن يمنح المواطن الشجاعة الكافية للمطالبة بحقوقه، وعدم السكوت على أي تجاوز أو تعد عليها، حيث أصبح الجو العام مهيئاً لذلك. وختاماً أؤكد أن هذا الموضوع من أهم وأخطر المواضيع التي يجب العناية بها وجعلها من الأولويات لكل مسؤول في الدولة، لأن ذلك هو سبيل النجاة والاستقرار والرقي والنهضة، وليس بالغاية السهلة ولا اليسيرة، إلا أنه ليس بالمتعذر ولا المستحيل متى ما صحتْ العزائمُ وصدقتْ النوايا وقويتْ الرغبة في الإصلاح الحقيقي. وما توفيقي إلا بالله هو حسبي ونعم الوكيل.