صناعة المقاولات ودور ديوان المظالم
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن صناعة المقاولات وما تواجهه هذه الصناعة من عقبات أدت في بعض الأحيان إلى تهاوي وسقوط بعض الشركات والمؤسسات الوطنية العاملة في مجال المقاولات، وإفلاس بعضها وغرقها في بحر من الديون والالتزامات التي تعجز عن الخروج منها. ولا أظن مواطناً أو مسؤولاً غيوراً ومحباً لهذا الوطن الغالي ولمواطنيه، يرضى عن هذا السقوط والتردي لكيانات ٍ استثمارية ٍ كانت بالأمس تسهم في دفع عجلة النمو والتطور لمشاريع الوطن، وكانت مصدر رزق ٍ لمئات وآلاف ٍ من الموظفين والعمال. وفي هذه الأثناء تصدى للحديث عن المقاولين الوطنيين كثير من الكتاب والمهتمين بهذا الشأن، وتنوعت الكتابات حول هذا الموضوع بين من يطالب بدعم المقاولين ومساعدتهم لتجاوز هذه المرحلة الصعبة، وبين من يلقي باللوم على هؤلاء المقاولين ويتهمهم بالتقصير والإهمال، وأن سقوطهم وفشلهم ليس إلا بسبب عدم كفاءتهم وإخلالهم بالجودة والنوعية في مستوى أعمالهم وبعدم التخطيط الجيد لمشاريعهم والدخول في عقود ٍ فوق مستوى إمكاناتهم. كما تحدث كثيرون عن المستوى الهابط والمتدني للمشاريع المنفذة من قبل مقاولين محليين، وطالبوا بإسناد المشاريع إلى مقاولين وشركات ٍ أجنبية تهتم بمستوى الجودة والإتقان والإنجاز. ومن خلال تجربتي السابقة في ديوان المظالم ما بين القضاء الإداري والقضاء التجاري، أحببت الإسهام في مناقشة هذا الموضوع الحيوي من الجانب المتعلق بتخصصي وبتجربتي السابقة في النزاعات المتعلقة بعقود المقاولات، وذلك عبر مجموعة ملاحظات آمل أن تكون مفيدة ً عند بحث هذا الموضوع ومحاولات تشخيص المشكلة وإيجاد الحلول المناسبة لها. أولاً : كثير من المشاريع الحكومية يتم إسناد تنفيذها إلى مقاول أجنبي يتولى بدوره التعاقد من الباطن مع مقاولين محليين لتنفيذ أجزاء هذا المشروع وبتكلفة ٍ أقل كثيراً من مبلغ العقد الأساسي، وبهذا نكون قد أسندنا تنفيذ المشاريع إلى مقاولين محليين مع حرمانهم من الحصول على هامش الربح الذي حصل عليه المقاول الأجنبي، وهذا يدعو إلى إعادة النظر في تلك السياسة والسعي لتأهيل شركات ومؤسسات المقاولات المحلية ومساعدتها على النهوض بمستوى أعمالها ورفع كفاءتها. ثانياً : تعد عقود المقاولات الحكومية ميداناً فسيحاً وبيئة ً مناسبة لظهور كثير ٍ من صور الفساد ما بين مقاول ٍ نزيه ٍ يضطر لدفع المال لمن يخشى تعسفهم وتسلطهم عليه بغير حق، أو مقاول ٍ مخالف ٍ يدفع المال لتغطية ِ مخالفاته إذا وجد من يتواطأ معه من الموظفين الفاسدين في الجهة المالكة للمشروع. كما أن من صور الفساد في العقود ما يمارسه بعض الموظفين والمسؤولين من تعسف ٍ وإساءة لاستعمال السلطة واستغلال نفوذ في حق المقاول، سواء ً بإيجاد العوائق التي تمنعه من حسن التنفيذ، أو استغلال أدوات المقاول وعمالته في تنفيذ أعمال ٍ خاصة ٍ بذلك المسؤول أو تحقيق مصالح شخصية ٍ له، وكثيرة هي القضايا من هذا النوع. ولذا فإني أدعو الجهات الرقابية والإشرافية في الدولة، خاصة هيئة الرقابة والتحقيق، إلى تكثيف رقابتها على هذا المجال من مجالات الفساد، والتحقق من أن تنفيذ العقود الحكومية يتم على أحسن الوجوه دون فساد ٍ مالي أو إداري، حماية ً للمقاول من تعسف المسؤولين، وحماية ً للمشاريع والمرافق العامة من التنفيذ الرديء، وحماية ً للمال العام من الإهدار والتبديد. ثالثاً: من الإشكالات التي يواجهها المقاولون في تنفيذهم للعقود اضطرارهم للخضوع لتعسف بعض المسؤولين في الجهات الحكومية، والتنازل عن بعض ضماناتهم القانونية، ما بين كتابة إقرارات ٍ للتنازل عن بعض مستحقاته أو إقرار ٍ بمسؤوليته عن خطأ ٍ ليس مسؤولاً عنه فعلياً، في مقابل حصوله على بعض مستحقاته في حينها كصرف المستخلصات المتأخرة أو بعضها، ومن صور ذلك أيضاً تساهل المقاول في تنفيذ أعمال ٍ إضافية زائدة عن نطاق العقد دون التأكد من نظامية التكليف الصادر إليه إما أن يكون صادراً من غير مختص، وإما صادراً خارج الحدود التي يجوز زيادتها على العقد، وحين يطالب المقاول بتعويضه عن هذه الأعمال يواجه إشكاليات ٍ أمام القضاء لم يحسب حسابها. رابعاً: أما في ديوان المظالم فإن الديوان في قضائه الإداري يؤدي دوراً مشرفاً وإيجابياً في حفظ حقوق المقاولين، ورفع الظلم عنهم، وما زالت أحكام الديوان قديماً وحديثاً تشهد بأنه النصير الأول والأبرز للمقاولين الوطنيين، أمام تعسف بعض الجهات الحكومية. إلا أنه مما ينبغي التأكيد عليه من باب العدل في القول أن قضايا المقاولين في ديوان المظالم تشهد بعض الإشكاليات والعوائق التي يعانيها المقاولون، وتتضمن إهداراً لجانب ٍ مهم ٍ من حقوقهم من عدة جوانب، أتمنى إعادة النظر فيها وإعادة تقييمها، وأن يلتفت أصحاب الفضيلة قضاة الديوان إليها فيولونها البحث والتأمل والدراسة، براءة ً للذمة، وسعياً إلى تحقيق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ومن أبرز هذه الإشكالات: 1- المدة الطويلة التي يستغرقها نظر مثل هذه القضايا، حيث وصل بعضها إلى أكثر من 20 عاما، ولهذا التأخير أسبابه الكثيرة التي يمكن إعادة النظر فيها وإيجاد الحلول المناسبة لها، ما بين تباطؤ الجهات الحكومية في الاستجابة لطلبات القضاء وتقديم ما يطلب منها من مستندات، أو ضعف تأهيل مندوبي تلك الجهات، أو عدم انتظامهم في حضور الجلسات، أو عدم قدرة بعض القضاة على الإلمام بكثير ٍ من الجوانب الدقيقة للعقود الإدارية، ومن هذه الأسباب أيضاً وهو ظاهر ٌ وملاحظ كثرة تشكيلات الدوائر القضائية، حيث يتعاقب على القضية الواحدة أحياناً عشرات القضاة في فترات ٍ متلاحقة ٍ لا يتمكن معها أحد ٌ منهم من المضي في نظر هذه الدعوى أو إنجاز شيء ٍ فيها أو تصورها على حقيقتها وفهم وقائعها، وهذا الإشكال يعد مسألة ً شائكة ً لا يبدو أن في الأفق القريب حلاً لها في ظل كثرة التعيينات والترقيات والتنقلات للقضاة. 2- كما أن من أبرز الإشكالات التي تواجه قضايا المقاولات في الديوان ضعف آلية التعويض التي ينتهجها قضاء الديوان الإداري حالياً، وذلك لعدم وجود الآليات الدقيقة التي تعين القاضي على تحديد حجم الأضرار الواقعة على المقاول. وفي هذا الجانب أحب التأكيد على أن من المسائل التي أود إعادة النظر فيها وهي مسألة ٌ مُلحة لها مساس ٌ بصورة القضاء الشرعي في هذه البلاد القائمة على حكم الشريعة، وهي ما يتعلق بالحكم للمقاولين بالتعويض عن الأضرار التي تلحقهم بسبب التأخير الكبير في صرف المستخلصات الشهرية، وحتى لا يُساء فهم كلامي فإن الديوان يحكم بالتعويض عن هذه الأضرار لكن في حال تقديم المقاول ما يثبت على وجه الدقة حجم الضرر الذي لحق به بسبب هذا التأخير، أما إن لم يكن لديه الإثبات لحجم الضرر على وجه الدقة والتحديد فقد اتجه ديوان المظالم في قضائه أخيرا إلى عدم الحكم بتعويض عن هذا الضرر، وقد كان الديوان في السابق يحكم بالتعويض الجزافي بنسبة ٍ مئوية ٍ من إجمالي تكلفة العقد، ووجهة النظر في العدول عن هذا المبدأ هي أن التعويض في حال عدم إثبات حجم الضرر يكون من قبيل التعويض عن مجرد التأخير في الدين، وهو من صور الربا المحرم. وهذه المسألة مما تحتاج إلى اجتهاد وفقه دقيق، وحرص على رعاية مقاصد الشريعة في رفع الضرر وجبر المضرور، وأنه في سبيل بحث هذه المسألة يجب التفريق بين أمرين لكل منهما حكمه المستقل، وهما: أ- مسألة وقوع الضرر. ب ـ ومسألة تحديد مقدار هذا الضرر بدقة. فإن وقوع الضرر إذا كان ثابتاً أو يغلب الظن بحصوله يعتبر سبباً شرعياً صحيحاً للحكم بالتعويض بما يغلب على الظن أنه يجبر ذلك الضرر أو يخفف منه، وأن عدم القدرة على تحديد الضرر بشكل ٍ دقيق لا ينبغي أن يكون مانعاً من مبدأ التعويض لأن التعويض حينئذ ٍ لا يمكن أن يوصف بأنه تعويض عن مجرد التأخير. والقول بغير ذلك يؤدي إلى تفويت مقصد ٍ من مقاصد الشريعة، وإلى اتهام القضاء الشرعي بالعجز عن إيجاد حلول ٍ عادلة لمشكلات الناس، وهذا من الجناية على الشريعة. ولا يخفى أن الحكم بالتقدير الجزافي في الحالات التي يحتاج فيها إلى التقدير ولا سبيل إلى الوصول لتقدير قاطع أن ذلك مسلك شرعي وسياسة ٌ شرعية ٌ ومألوف في أحكام الفقه الإسلامي كالتقدير بالثلث في دعوى الغبن. أما ما يتعلق بثبوت وقوع الضرر على المقاول من تأخير صرف المستخلصات الشهرية له، فإن ذلك أصبح أمراً معلوماً ومشاهداً في الواقع ولا ينكره إلا من يجهل واقع الناس، خاصة أن تأخير صرف المستخلصات إلى فترات ٍ طويلة ٍ وغير مقبولة أصبح منهجاً متبعاً في كثير من العقود الحكومية، وهذا ما أدى إلى انهيار كثير من الشركات والمؤسسات العاملة في هذا المجال، لأنها لا تملك القدرة على تأمين نفقات المشاريع التي تعاقدت على تنفيذها بطريق التمويل الذاتي، مما اضطرها للجوء إلى الاستدانة وطرق التمويل البنكية التي تجعل من المقاول في النهاية يخرج من هذا العقد بأقسى صور الخسارة. 3- كما أن من الإشكالات الكبيرة التي تواجهها قضايا المقاولات في ديوان المظالم وفي غيره من المحاكم، عدم قدرة القضاة بشكل عام على استيعاب تقارير الخبرة الفنية التي يحتاج القاضي للاستعانة بها في تقرير بعض مسائل الدعوى مثل تحديد مسؤولية أحد الأطراف عن خطأ معين، أو تقدير التعويض المناسب عن أعمال، أو تقدير مدى تطابق الأعمال المنفذة مع المواصفات المطلوبة في العقد، أو غير ذلك. وفي الحقيقة فلا يمكن مطالبة القاضي بأن يكون خبيراً في كل شيء، وإنما ينبغي السعي لإيجاد جهات ٍ فنية متخصصة تكون محل ثقة واعتبار القضاء والخصوم ولا يتطرق إليها الشك في نزاهتها وحيادها ولا في كفايتها وإتقانها الفن الذي يطلب منها تقديم الرأي فيه. وفي هذا الصدد فإن مما يستحق الإشادة أن بعض دوائر ديوان المظالم عند حاجتها لرأي خبير فني تقوم بندب بعض الجامعات أو القطاعات الحكومية أو الخاصة المشهود لها بالتميز في تخصصات معينة مثل طلب الرأي الطبي من كبار مستشفيات المملكة، أو الرأي الهندسي من كليات الهندسة أو كليات التقنية، ونحو ذلك، وهذه الجهات تمتلك من الكفاءات المتخصصة الموثوقة ما يكفي لتقديم الرأي الاستشاري الفني الذي يطمئن إليه القضاء ويرضى به الخصوم، وهذا مسلك ٌ حكيم ورأي ٌ سديد. وختاماً أحب التأكيد على أن المقاول الوطني في أشد الحاجة إلى الوقوف معه وإزالة ما يعترضه من عوائق ليس لمجرد البقاء والاستمرار، وإنما للوصول إلى مستوى المنافسة العالمية ليكون واجهة ً مشرقة لوطنه، كما أنه لا يمكن أن يرضى مواطن ٌ ناصح ٌ محب ٌ لوطنه أن يرى كبريات الشركات والمؤسسات العاملة في صناعة المقاولات تتهاوى وتسقط الواحدة تلو الأخرى وتعلن إفلاسها لأسباب ٍ كان بالإمكان معالجتها وتلافيها، فهذه الشركات والمؤسسات جزءٌ من الوطن وإليه، وليس من العدل أن نطلب منها التميز والاستمرار والنجاح، دون تذليل ما يواجهها من صعوبات وعوائق. والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.