إصلاح القضاء التجاري لا يحتمل التأخير
منذ أن صدر نظام القضاء الأخير قبل أكثر من سنتين ونحن نتطلع إلى سرعة تطبيقه ليكون واقعاً ملموساً، وينتقل إلى حيز التنفيذ، بما في ذلك إنشاء المحاكم التجارية المتخصصة، والتي يأمل الجميع أن يكون لها دور فاعل ٌ في إصلاح وضع القضاء التجاري في المملكة، حيث تأخر هذا القضاء كثيراً، وكان طيلة السنوات الماضية مشتت الأوصال، متناثر الاختصاصات ما بين دوائر قضائية في ديوان المظالم إلى لجان ٍ قضائية ٍ أو شبه قضائية، تختص كل ٌ منها في فرع ٍ من فروع القضاء التجاري. ولا يخفى أن إصلاح القضاء التجاري لا يمكن أن يتم إلا بشرطين أساسيين هما: 1- إنشاء المحاكم التجارية المتخصصة التي تنضوي تحت مظلتها كل اختصاصات القضاء التجاري المبعثرة حالياً. 2- مراجعة الأنظمة التجارية وإعادة صياغتها وإصدارها في مدونة ٍ واحدة تحوي كل ما يتعلق بالقانون التجاري من أنظمة بدلاً من هذا الشتات القائم حالياً. إلا أن التأخر والبطء الكبير في تنفيذ ما تضمنه نظام القضاء من إنشاء المحاكم التجارية وسلخ الدوائر التجارية الموجودة في ديوان المظالم إلى هذه المحاكم الجديدة، يشكل ُ هذا التأخير والتباطؤ عقبة ً كبرى دون استكمال باقي خطوات إصلاح القضاء التجاري الذي لم يعد يحتمل التأخير. ومنذ سنوات ٍ طويلة وكل المهتمين بالشأن الحقوقي والاقتصادي في المملكة ينادون بسرعة إصلاح الأنظمة التجارية والقضاء التجاري، لمواكبة ما تشهده المملكة من طفرة ونقلة ٍ كبيرة على جميع المستويات، وما من شك ٍ أن دول العالم في ظل الظروف الحالية والأزمات الاقتصادية تتسابق نحو إيجاد المخارج من هذه الأزمة والتهيؤ للانتقال إلى المرحلة المقبلة بأنظمة ٍ وتشريعات ٍ أكثر مرونة ً وأقدر على مواجهة الأزمات، والمملكة في هذا العهد الميمون الزاهر، عهد خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – تمتلك كل المقومات التي تحقق لها الإصلاح والنهضة والتطوير في كل المجالات عامة ً وفي مجال القضاء على وجه الخصوص ما تصبو إليه وتتمناه كل دول العالم. وإن من بواعث القلق أن تمضي السنوات التي لا ندري مداها، دون أن يتم تنفيذ ما تضمنه نظام القضاء من رؤية المحاكم التجارية واقعاً ملموساً. ومن أبرز مساوئ هذا التأخير ما يلي: 1- تأخير خطة التطوير والتأهيل المتخصص الذي تحتاج إليه هذه المحاكم بقضاتها وموظفيها، إذ لا يمكن لديوان المظالم في وضعه الحالي أن يقوم على تأهيل قضاته التابعين لمحاكمه الإدارية ولقضاة المحاكم التجارية بالمستوى نفسه، فإما أن يركز على تدريب القضاة الإداريين أكثر على حساب قضاة المحاكم التجارية – ولا يلام في ذلك – وإما أن يكون تأهيل وتدريب قضاة المحاكم التجارية معتمداً على خطط ٍ قصيرة الأمد مبتورة ٍ عن خطط المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل لتأهيل القضاة التابعين للقضاء العام حالياً. ولا يمكن أن يطالب ديوان المظالم بالشروع بجدية في وضع خطط مدروسة لتدريب وتأهيل قضاة المحاكم التجارية وهو يعلم أن هذه المحاكم سيتم سلخها عنه قريباً. 2- ثم إن المتابع لأوضاع المحاكم التجارية في ديوان المظالم – وأنا كنت أحد منسوبيها – يجد حالة ً من الترقب والانتظار والقلق تسود في نفوس أصحاب الفضيلة قضاة هذه المحاكم حول ما يؤول إليه حالهم عند انسلاخ هذه المحاكم إلى وزارة العدل، بل أصبح القضاة ينظرون بعين الريبة إلى كل حركة تشكيل أو نقل للدوائر تتضمن نقل قاض ٍ تجاري إلى دائرة ٍ إدارية أو تفريغه من العمل القضائي، إذ يعتقد بعض القضاة أن المقصود من ذلك استثناء هذا الزميل من حركة السلخ وبقائه في الديوان وفي ذلك تمييز له عن غيره. ولا شك أن هذه الحالة من الترقب والانتظار بما تحدثه من هواجس في نفوس القضاة، لها أثرها في استقرار الأحكام وتوجيه الاهتمام والتركيز على العمل القضائي والبحث. بل حدثني بعض أصحاب الفضيلة منهم بوجود النية الجادة لديهم للاستقالة والالتحاق بالعمل في القطاع الخاص أو المحاماة في حال طرأ عليهم ما لا يتوافق مع رغباتهم من حيث مكان العمل أو غيره. وفي سبيل إصلاح القضاء التجاري أيضاً لابد من التأكيد على عدة أمور ٍ مهمة: أولاً: ينبغي أن يتوافر للقاضي التجاري من الوسائل ما يعينه على تجاوز العقبات التي تمنعه من سرعة الفصل في النزاعات على أحسن الوجوه، بما يتفق مع التطبيق الصحيح لأحكام الشريعة الإسلامية، ويواكب مستجدات العصر وتطورات التجارة العالمية وأدوات الاستثمار المتنوعة، والإحاطة بما يتعلق بعمله من أنظمة ٍ وتعليمات، وما توقع عليه المملكة من معاهدات. ومن أبرز وأهم هذه الوسائل ما يلي: 1- إيجاد الأقسام الخاصة بالمعلومات ومراكز للبحوث وأخرى للترجمة القانونية المتخصصة، مما لا يمكن أن يستغني عنه عمل القاضي التجاري وأنا على يقين بأن عدم توفير هذه المرافق للقاضي لابد أن يؤثر سلباً في نوعية الأحكام وأن ينعكس عليها بالضعف والقصور. ولا يمكن استمرار الوضع في القضاء التجاري على ما هو عليه الآن من بدائية ٍ واجتهادات ٍ فردية. 2- لابد أن توجد آلية ٌ فاعلة تربط بين القاضي التجاري وبين المتخصصين في المسائل التي يحتاج إليها في عمله، من مستشارين وعلماء وباحثين في مجالات المصرفية الإسلامية، وفقه العقود، والأوراق المالية والتجارية، والمتخصصين في العقود الاستثمارية الحديثة، والعلامات التجارية، وأحكام الشركات، وغيرها الكثير من المجالات المندرجة تحت مظلة القانون التجاري، مما يصعب على القاضي أن يكون ملماً بها جميعاً ومتخصصاً فيها. حيث يكون متاحاً للقاضي إذا ما عرضت له مسألة ٌ يحتاج فيها إلى رأي ٍ متخصص يتوقف عليه الحكم في الدعوى، أن يستكتب هؤلاء العلماء والباحثين وأن يطلب منهم الرأي والمشورة في ذلك دون إلزام ٍ له بهذا الرأي إلا أنه يكون معيناً على حسن تصور المسألة ومعرفة الحكم الشرعي والقانوني الصحيح لها بعد الوصول إلى تكييفها الصحيح. ولتطبيق هذا الاقتراح عدة صور: أ- إما أن يتم إنشاء مركز ٍ للبحوث الشرعية والقانونية يتولى هذا المركز إمداد جهات القضاء عموماً وجهات الفتوى في البلاد بما تحتاج إليه من بحوث ٍ متخصصة، ويوفر لها الكوادر من العلماء والباحثين، ويتولى خدمة عدة جهات ٍ في وقت ٍ واحد. ب- وإما بطريق التعاون بين المحاكم وبين مراكز البحوث والجامعات وإن كان ذلك قد يترتب عليه البطء في تقديم البحوث التي يطلبها القضاء نظراً لعدم تفرغ هذه الجهات لذلك. 3- في مجال تأهيل القاضي التجاري لا بد من ابتعاث القضاة وفق آلية ٍ متدرجة ودون إخلال بالعمل القضائي ليطلعوا على تجارب الدول التي سبقتنا في تنظيم القضاء التجاري من دول ٍ عربية ٍ أو أجنبية، فذلك أدعى للاستفادة من هذه التجارب وتوسيع مدارك القاضي، وهذا أجدى من الزيارات القصيرة التي تقوم بها وفود قضائية لعدة أيام تكتفي بالمرور على أروقة المحاكم دون إلمام ٍ بالجوانب الأكثر عمقاً في العمل القضائي. ثانياً: من الملاحظات الجديرة بالعناية أيضاً والتي لمستها أثناء عملي في القضاء التجاري عدة سنوات، ضعف أو انعدام الرابطة بين القضاء التجاري وبين أعراف التجار، فكثير ٌ من المسائل التي يتصدى لها القاضي يكون مرجع الفصل فيها على الوجه الصحيح إلى أعراف التجار وما عليه عملهم، بينما لم يسبق أن مرّ بي أن كتب قاض ٍ تجاري إلى أصحاب الخبرة لسؤالهم عن هذه الأمور، سواء في تفسير العقود أو الشروط فيها، أو في تحديد الالتزامات التي لا ينص عليها العقد ثم تكون محل نزاع بين طرفيه، أو نحو ذلك، وعلى النقيض من هذا المسلك نجد أن التجار في فرنسا هم الذين يتولون وضع قوانينهم بأنفسهم، ثم يتولى طائفة ٌ منهم من ذوي الخبرة الطويلة بعد أن يتركوا العمل التجاري يتولون الفصل في منازعات التجار، وأنا لا أطالب بذلك، وإنما أتمنى إشراك التجار المعروفين الموثوقين في جميع مجالات التجارة، في القضاء التجاري والعناية بأعرافهم التي لها اعتبار ٌ في الشريعة الإسلامية بشروطها المعروفة. وخلاصة القول إن الوضع الحالي للقضاء التجاري لا يدعو إلى التفاؤل، حيث لا يظهر أبداً أننا بدأنا نسلك الطريق المؤدي إلى الإصلاح، فكل شيء ٍ متوقف عند خطوة صدور نظام القضاء منذ أكثر من سنتين، فلم تستقل المحاكم التجارية حتى الآن، ولم نبدأ برنامجاً عملياً دقيقاً شاملاً لتأهيل القضاة في القانون التجاري، وما زالت اللجان القضائية وشبه القضائية تمارس الفصل في أنواع ٍ من القانون التجاري بطريقة ٍ مشتتة تفتقر إلى أبسط ضمانات التقاضي. وإذا كان من أبرز سمات القضاء التجاري سرعة الفصل في النزاعات، فإن الحال في ديوان المظالم اليوم على العكس من ذلك، إذ تبقى الدعوى التجارية ترزح بالسنوات الطويلة دون أن تتقدم خطوات، ثم إذا صدر الحكم يبقى في أدراج محاكم الاستئناف ( دوائر التدقيق التجاري ) أكثر من سنة ٍ في قائمة الانتظار لم يبدأ النظر فيه ودراسته. وفي بعض الدوائر يمضي على الدعوى سنة ٌ كاملة لم يعقد لها سوى جلسة ٍ أو جلستين، مع التأخير في تسليم الأحكام بعد صدورها. وأهم من ذلك كله ضعف مخرجات الأحكام، وكثرة ما يعاد منها منقوضاً ليبدأ نظر الدعوى من جديد، وهذه الحال لا شك أن لها تأثير ٌ سلبي في صورة البيئة الاستثمارية في المملكة وطرد الاستثمارات الأجنبية التي تسعى الدولة لاستقطابها، كما أن لذلك أثراً سيئاً يحمل بعض الناس على ترك حقوقهم للضياع والتنازل عنها لعدم قدرتهم على مجاراة هذه الفترات الزمنية الطويلة، أو اللجوء للتحاكم إلى دور التحكيم الدولية وهو تحاكم ٌ إلى غير شرع الله ـ عز وجل. وهذا الحال المتردي لا يمكن أن يحمل وزره أصحاب الفضيلة قضاة الدوائر التجارية في الديوان الذين يبذلون غاية جهدهم في النظر في هذه القضايا، إلا أن الأزمة أكبر من طاقتهم والعوامل المعينة لهم على الأداء مفقودة أو متردية، مما يدعو إلى سرعة إنقاذ ما تضمنه نظام القضاء والبدء بالخطوات العملية الجادة لإصلاح القضاء التجاري الذي تشكل أول خطوة ٍ فيه خروج المحاكم التجارية إلى النور وهو ما نرجوه ـ بإذن الله. والحمد لله أولاً وآخراً.