فتنة مقتل عثمان -رضي الله عنه- وكفى بالتاريخ واعظاً

فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه
مقال أسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض

في عصرنا الذي نعيشه يتفق الناس عامة والعقلاء خاصة على أننا نمر بفتن عظيمة لا يستهان بها، نسأل الله عز وجل أن يكفينا شرها ويجعل عاقبتنا إلى خير. ولأنه كما يقول الأول: إن الشجى يبعث الشجى، فكذلك أحداث الفتن تدعو إلى العودة لاستحضار أحداث التاريخ الأول وما جرى على المسلمين من فتن ومصائب في التاريخ الإسلامي، لاستلهام ما فيها من عبر ودروس، ولأن من يقرأ التاريخ ويستوعبه يمكنه أن يتعامل مع سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير.

إن الفتن إذا وقعت أحرقت الأخضر واليابس، وضاع في ثناياها ما كان يزعمه القائمون فيها من ادعاءات إصلاح، وصارت سلبيات الأمس أماني يتمنى الناس الرجوع إليها مع الأمن والاستقرار والسلام..

وإن من أعظم الفتن التي عصفت أحداثها بالمسلمين، وأحدثت من الآثار القبيحة ونتائج الشر الوخيمة ما لم يستطع الزمن تداركه ولا مضي القرون علاجه؛ فتنة مقتل الصحابي الجليل، الحيي الطاهر، أمير المؤمنين ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

فكيف حدثت تلك الفتنة العظمى في ذلك الزمان الأقرب إلى الهدي النبوي، والذي كان الصحابة رضوان الله عليهم فيه متوافرون لم ينقرضوا بعد؟!

ثم كيف كان ضحيتها صحابي من أجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان صهر النبي في بنتين من بناته عليه الصلاة والسلام، والذي تواترت الأحاديث في فضائله، وأنه من أهل الجنة؟!

إن الحقائق التاريخية، والأحداث الجسام التي صاحبت هذه الفتنة العظيمة، تؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك، وتعلمنا دروساً بليغة نحن اليوم أحوج ما نكون إلى استيعابها وإدراكها لنسلم من مثل هذه الشرور العظيمة؛ وهذه الدروس هي:

أولاً: أنه متى ما انفلت زمام الأمور حتى صار يقودها السفهاء والغوغاء واندس فيها الأعداء المتربصون وذوو الأهداف القذرة، فإنها تخرج عن سيطرة العقلاء، ويعم بها الفوضى والشر والبلاء، حتى لا تتوقف إلا بعد أن تحرق الأخضر واليابس، وتؤول بالأمة إلى شر حال لا يستطيع حتى جيش الأعداء إحداثه فيها، لأن الفتن التي تشتعل من الداخل أعظم وأشد خطراً من العدو الخارجي الذي حين يتحرك لمواجهة عسكرية يكون ذلك سبباً لتوحد صفوف الأمة في مواجهته لإدراكهم لخطره.

فالتاريخ يثبت أن الذين أوقدوا نار الفتنة، واقتحموا على عثمان بن عفان رضي الله عنه بيته فقتلوه بكل إجرام وفجور، كانوا كالسيل الجرار الذي كان أفراده من أوباش الناس، وشرار الخلق، الذين وصفهم الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم بقوله: "الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب: فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين فأكبروا الهنات (أي عظموا الصغائر وضخموها) وارتكبوا في إنكارها الموبقات، وفيهم الذين ينزعون إلى عصبية على شيوخ الصحابة من قريش، وفيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم، فاضطغنوا في قلوبهم الأحنة والغل لأجلها، وفيهم الحمقى الذين استغل السبئيون ضعف عقولهم فدفعوهم إلى الفتنة والفساد والعقائد الضالة، وفيهم من أثقل كاهله خير عثمان ومعروفه نحوه، فكفر معروف عثمان، وفيهم من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان، ولو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين، وفيهم المتعجلون بالرئاسة قبل أن يتأهلوا لها اغتراراً بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة.. الخ كلامه رحمه الله".

وهذا الكلام البديع من محب الدين الخطيب كأنه يصف تماماً أصناف الساعين إلى الفتن في كل زمان، فهم جيش تختلف دوافعهم ومنطلقاتهم، إلا أنهم يتوحدون لتحقيق غاية واحدة وهي الإطاحة بالإمام والخروج على جماعة المسلمين لأنهم بذلك يقتربون أكثر من تحقيق غاياتهم.

ولئن نظرنا إلى كل دعاة الفتنة وناشري الإشاعات والمحرضين على ولي الأمر في زماننا، لنجدهم تماماً لا يخرجون عن التكفيري المتشدد الضال، أو الذي تحركه دوافع وأطماع شخصية لا يهمه لو احترق المجتمع ليحصل عليها، أو المعادي للإسلام والمسلمين الساعي إلى إسقاط كل دولة ترفع راية الإسلام وتحمي شريعته، أو الحمقى والمغفلين الذين يتم توظيفهم تحت تأثير الشعارات البراقة والدعايات المضللة.

ثانياً: إن الفتنة العظيمة التي أطاحت بأفضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، لم يردعها ما ثبت وتواتر عند المسلمين من فضائل هذا الصحابي الجليل، بل إن أفراد جيش الفتنة الفجرة كانوا يزعمون بقتلهم لعثمان رضي الله عنه أنهم ينصرون الإسلام، ويسعون إلى مصلحة المسلمين!

يقول الحافظ ابن حجر عن عثمان رضي الله عنه: "جاء من أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر عثمان بالجنة، وعده من أهل الجنة، وشهد له بالشهادة"، وثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم عن عثمان: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟" وهو صاحب المواقف العظيمة في الإسلام حتى قال عنه صلى الله عليه وسلم في تجهيزه جيش العسرة: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم".

فإذا كان أهل الفتنة لم يتورعوا عمن كانت هذه فضائله؛ هل يمكن أن يكفوا شرهم عن غيره من أئمة المسلمين وقادتهم وعلمائهم؟!

ثالثاً: إن من أعظم ما قامت عليه فتنة مقتل عثمان من أسس، تضخيم الأمور الصغائر، وتهويل السلبيات وتلقفها وتصيدها، بل حتى الحسنات الواضحة قلبوها سيئات لأنهم كانوا يحركهم الهوى الأعمى.

روى سالم بن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم أن أباه قال: "لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه".

وهذا يوقظ في القلوب الحية ألا تغتر بمثل هذه الأساليب، وأن تكون القناعة راسخة بأن أعظم مصلحة يدعو إليها الإسلام ويأمر بها أتباعه، هي مصلحة الحفاظ على جماعة المسلمين مؤتلفة، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، وأن يردوا مثل هذه الأمور العامة إلى أهل الحل والعقد فيهم، عملاً بقول الله عز وجل "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا".

فإن الفتن إذا وقعت أحرقت الأخضر واليابس، وضاع في ثناياها ما كان يزعمه القائمون فيها من ادعاءات إصلاح، وصارت سلبيات الأمس أماني يتمنى الناس الرجوع إليها مع الأمن والاستقرار والسلام.

أسأل الله أن يعصمنا من الفتن، وأن يرضى عن صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويجمعنا بهم في الجنة صحبة نبينا عليه الصلاة والسلام

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني