تأهيل القضاة .. رؤية مستقبلية
عندما صدر الأمر الملكي الكريم قبل فترة وجيزة بتعيين صاحب السماحة معالي الشيخ صالح بن حميد – وفقه الله – رئيساً للمجلس الأعلى للقضاء كان لهذا التعيين صداه العريض في أوساط كثيرة، وكانت له معطيات إيجابية حيال التطوير القضائي المنشود الذي يتطلع إليه المجتمع، فنحن أمام نقلة نوعية، ورغبة جادة للارتقاء بالمرفق القضائي إلى المستوى اللائق به. ولعل أول حقيقة تتجلى لنا أن الإصلاح إنما ينطلق من ذات المرفق، وأنه إذا لم تبدأ حركة الإصلاح من داخل مرفق القضاء وبقناعة تامة وجهد حثيث من قياداته فإن هذا الإصلاح لا يمكن أن يؤتي ثماره المرجوة منه. ومن هذا المنطلق جاء الملتقى الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – ليناقش موضوع تأهيل القضاة بصفتهم المرتكز الأساس الذي عليه تعقد الآمال نحو التطوير القضائي. وقد أبدى المجلس الأعلى للقضاء ووزارة العدل في هذه الفترة جهوداً مشكورة، وخطوات مباركة، يلاحظها المتابع للشأن القضائي، وفق خطة متأنية، وفي مواضيع تتصل مباشرة باختصاصات القاضي، مما نأمل معه أن نرى آثارها المباركة قريباً. وفي هذا الصدد أطل علينا سماحة شيخنا الجليل القدر الشيخ صالح الحصين – وفقه الله – في أول جلسة من جلسات المؤتمر بإشراقة من إشراقاته المعهودة، لأنه الرجل الذي عرف عنه الجميع أنه سابق زمانه بكثير وبأنه الفقيه المتشرب بروح الشريعة، حيث قال سماحته كلمة تكفي وحدها للنهوض بمرفق القضاء، وتحقيق أحسن وجوه العدل، وإشاعة روح الشريعة الإسلامية في حياة الناس، إذ قال: (إن آراء الفقهاء السابقين لا تنطبق على واقع الحياة في زمننا.. وتطبيقها في عصرنا الحالي لا يضمن العدل). فلله درك أيها الشيخ الفقيه الإمام المدرك للواقع، نعم والله إنها كلمة حق نحن في أشد الحاجة إلى قولها والإيمان بها، ومن ثم العمل على التمشي بموجبها، وأن تكون حافزاً لنا لإعادة النظر في واقعنا المؤلم الذي يقوم على البحث عن الأحكام في أضيق المواطن، ومع ذلك أيضاً فلو أننا بحثنا بجد في أقوال فقهاء الإسلام السابقين – رحمهم الله – لوجدنا أن في هذه الأقوال أفقاً أوسع بكثير مما عليه الفتوى والعمل اليوم، وإن في آراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومعهم كثير من فقهاء الأحناف والمالكية والشافعية، الكثير من الفقه والدقة والرؤية المتعمقة والتجديد، حيث لو أننا بحثنا عنها كما ينبغي، وأوليناها من الاهتمام ما يجب لأخرجنا للناس قضاء عادلاً متجدداً كفيلاً بتحقيق روح الشريعة الإسلامية. وإذا ما سلمنا بذلك فإن من الجدير بالتنبه له أن أكبر عقبة في طريق التنمية والتحديث والتطوير في كل المرافق والمجالات، وفي مرفق القضاء على وجه الخصوص، لما له من طبيعة خاصة تتطلب الاجتهاد والابتكار والعمق وسعة الأفق، أن مما يضر بذلك احتكار المراكز القيادية والرئيسة في شخصيات معينة سواء في ذلك ما كان مرتبطاً بالمحاكم أو الدوائر التابعة لها. وأسوأ من ذلك التمديد لمن يتقاعد منهم، وقد يكون بعضهم في حال لا تسمح له بإعطاء العمل القضائي ما يتطلبه من جهد ووعي بالواقع وبحث وتأمل واستيعاب تام لوقائع الخصومات، فليس ابن الـ 30 كابن الـ 70. إن في استمرار ظاهرة التمديد لمن يبلغ من العمر عتياً إهدار للطاقات الشابة الفاعلة القادرة على مواكبة حركة التطوير والتجديد في الاجتهاد وإدراك متطلبات العصر الحديث وفقه واقع الناس والإلمام بأعرافهم التي لها تأثيرها واعتبارها في الأحكام الشرعية، بينما يصعب على كبار السن تحقيق كل هذه المتطلبات الضرورية. إن التطوير القضائي المنشود المعتمد على الإلمام بالأنظمة والوسائل الحديثة يتطلب قيادات شابة مؤهلة مدركة. ولقد أدرك خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – هذه الحقيقة واعتنى بها، حيث قرن بين رغبته في تطوير مرفق القضاء وبين تعيين أصحاب المعالي رئيس المجلس الأعلى للقضاء ووزير العدل ورئيس ديوان المظالم من هذه القيادات التي تعد في أوج عطائها لتحقيق غايات وطموحات خادم الحرمين الشريفين ورؤيته المستقبلية لمرفق القضاء. كما أن من أهم وسائل تطوير القضاء المفقودة في محاكمنا عدم وجود أي تواصل أو التقاء بين أصحاب الفضيلة قضاة المحكمة، أو بينهم وبين رئيس المحكمة. ولا أعني بالتواصل هنا تبادل اللقاءات الترويحية أو الزيارات الاجتماعية لتقوية الروابط الشخصية بين القضاة، فهذا مع أهميته إلا أن الأهم منه بكثير اللقاءات التي تدور حول هموم العمل ومناقشة ما يستجد من قضايا لدى القضاة، أو المشاركة في بحث الإشكالات التي تواجه القاضي في عمله، واستطلاع القاضي آراء زملائه مع تنوع خبراتهم واختلاف مداركهم، وتفاوت أعمارهم، ليخرج القاضي بعد ذلك برؤية واسعة الأفق تعينه على الحكم الأقرب للعدل ولمقاصد الشرع. وإذا كان الأطباء يجتمعون صباح كل يوم ليتباحثوا في ما يواجههم من إشكالات في الحالات المرضية المعروضة عليهم، فإن القضاة أحوج لذلك من الأطباء. وإذا كان الفقهاء السابقون – رحمهم الله – ذكروا أنه يستحب للقاضي أن يحضر مجلسه بعض فقهاء المذاهب لمشاورتهم، فإن من ذلك أن يلتقي بزملائه القضاة لهذا الغرض. لذا فإني أتمنى أن يتحقق ذلك في محاكمنا لما له من آثار حميدة على جو العمل في المحكمة، وعلى سرعة الفصل في القضايا. كما أن ذلك قد لا يتحقق دون وجود ما أشرت إليه من القيادات الشابة لهذه المحاكمة التي يتوافر لها قوة الدافع للتطوير والارتقاء بالعمل القضائي. وختاماً أسأل الله تعالى لأصحاب الفضيلة القضاة والقائمين على القضاء التوفيق لما يرضيه سبحانه والحمد لله أولاً وآخراً.