حق التقاضي.. حق ٌ مقدّس
إن القضاء في أي دولة يعتبر عرضها الذي يجب عليها أن تحميه، كما أنه عنوان سيادتها، وهيبته مستمدة ٌ من هيبة الدولة، وضعف أحدهما دليل ٌ على ضعف الآخر.كما أن القضاء يعتبر صمام الأمان، والمعقل الأخير للعدالة، فمتى اختُرق أو ضعف، فليس بعده عزاء. ومن هذا المنطلق يعتبر حق التقاضي من أهم المبادئ الضامنة لحقوق الإنسان والمكفولة لكل إنسان تحترمه جميع الشرائع والقوانين السماوية والأرضية، وتؤكد عليه القرارات والمواثيق الدولية، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص على حق كل إنسان في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مختصة مستقلة ونزيهة مشكلة وفقاً للقانون، وقبل ذلك جعلت الشريعة الإسلامية التحاكم إلى الله ورسوله وشريعته شرطاً أساسياً للإيمان بالله قال تعالى ''فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا'' (65) سورة النساء. ومن هذا المنطلق أكد النظام الأساسي للحكم على أن: ''حق التقاضي مكفول بالتساوي للمواطنين والمقيمين في المملكة'' المادة (47). وحرمان الناس حرمانا مطلقا من اللجوء إلى القضاء بأية وسيلة من شأنه الإخلال بحقهم في الحرية وفي المساواة في التكاليف والواجبات والانتصاف وهي حقوق طبيعية كفلها النظام الأساسي للحكم. كما أن منع الناس من ممارسة هذا الحق يفتح الباب أمام اقتضائهم حقوقهم بأنفسهم بطريقة البلطجة ويقود إلى سيادة قانون الغاب بدلاً من سيادة حكم الشرع والقانون. ولهذا فإن من واجبات الدولة أن توفر للعاجزين والضعفاء ما يعينهم على ممارسة حقهم في التقاضي إذا ما عجزوا عن ذلك، ومن باب أولى أن تتولى إزالة كل ما يعيق أو يمنع ممارسة الناس لهذا الحق المقدس المصان. وإذا ما تقرر هذا المبدأ الذي لا أظنه بحاجة ٍ إلى تقرير ٍ أو إثبات، أو إقناع، فإن من الظواهر المؤذنة بالسوء، ومن أشد الأمور إزعاجاً وإقلاقاً أن تجد بعض الجهات الحكومية تسعى لاستصدار قرارات ٍ تُحصِّن ما يصدر عن هذه الجهة من قرارات ٍ وتصرفات، وإغلاق جميع سبل الطعن أو الاعتراض عليها، ومنع القضاء الإداري - الذي هو حارس المشروعية - من بسط رقابته على قرارات وتصرفات تلك الجهة الحكومية، أياً كانت مبرراتها . ولقد تكرر مثل هذا الأمر في الآونة الأخيرة من بعض الجهات وعلى سبيل المثال: وزارة الشئون الإسلامية حين سعت لتحصين قراراتها الصادرة بحق الأئمة والمؤذنين، ومنع ديوان المظالم من النظر في تظلماتهم. ثم وزارة العمل في سعيها إلى تحصين القرارات الصادرة بشأن إصدار تأشيرات العمل، بحجة حماية ودعم منهج الوزارة في فرض سعودة الوظائف، وكأن ديوان المظالم عدو للسعودة، أو غير مستوعب ٍ لأهميتها. وأمثلة ذلك للأسف متكررة في بعض الجهات الحكومية، ومن المعلوم أن رقابة القضاء هي دون غيرها الرقابة الفعالة التي تكفل للناس حقوقهم الطبيعية وحرياتهم العامة . فإذا ما سعت ْ أي جهة حكومية ٍ لتعطيل هذه الرقابة فإن ذلك دليلا على رغبتها في العمل خارج حدود المشروعية، إذ لا يمكن أن تضيق ذرعاً برقابة القضاء وهي تسعى إلى المصلحة العامة وتتحرك داخل حدود المشروعية. وإن خطورة هذا المسلك أنه يفضي إلى إيجاد شريحة ٍ من المجتمع تشعر بالظلم والقهر، وتعتقد أنها مسلوبة َ الحق حتى في مجرد المطالبة أو الاعتراض لدى القضاء. وهذا بلا شك من أشد الأمور ضرراً بأمن المجتمع واستقرار الدولة. وقد نصت مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية والمعتمدة بقراري الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 40/32 في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1985 ورقم 40/146 في 13 كانون الأول (ديسمبر) 1985 في أحد بنودها على أن: (لكل فرد الحق في أن يحاكم أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية التي تطبق الإجراءات القانونية المقررة، ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية، لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة حسب الأصول والخاصة بالتدابير القضائية، لتنتزع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية أو الهيئات القضائية ). وفي هذا المقام يجب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموما وتحديد دائرة اختصاص القضاء. وأنه لا يجوز من الناحية الدستورية حرمان الناس كافة من الالتجاء إلى القضاء للانتصاف، لأن في ذلك مصادرة لحق التقاضي، وهو حق كفله النظام الأساسي للحكم كما تقدم، إذ تكون مثل هذه المصادرة بمثابة تعطيل وظيفة السلطة القضائية، وهي سلطة أنشأها النظام الأساسي للحكم لتمارس وظيفتها في أداء العدالة . كما أن تقرير الحقوق للناس يفقد أي معنى وقيمة ٍ له إذا مُنعوا من المطالبة بهذه الحقوق عند حرمانهم منها أو اللجوء للقضاء لحمايتها عند الاعتداء عليها، لأن من المتقرر والمعلوم أن الحق يتجرد عن قيمته القانونية إذا لم يكن له دعوى تحميه. ولعل من أغرب وأسوأ الأمثلة على نزع حق التقاضي وحجبه عن بعض الفئات ما نص عليه نظام القضاء في باب تأديب القضاة المادة (65) من أن الأحكام التأديبية الصادرة بحق القضاة غير قابلة ٍ للطعن. ووجه الغرابة في ذلك أن القضاة الذين يناط بهم تحقيق العدالة للناس والنظر في تظلماتهم وخصوماتهم، لا يتاح لهم الحق في التقاضي والطعن أو الاعتراض على ما يصدر بحقهم من أحكام ٍ تأديبية. كما أن من صور منع الناس من حقهم في التقاضي ما صدر عن ديوان المظالم من أحكام ٍ قررت عدم خضوع أعمال هيئة التحقيق والادعاء العام وأعمال إمارات المناطق أو إدارات الشرطة فيها لرقابة القضاء الإداري ، بحجة أنها من قبيل أعمال الضبط القضائي ولا تعد ُ من قبيل القرارات الإدارية، ومع تقديري لهذا الاجتهاد وقناعتي بأن أصحاب الفضيلة من مشايخي قضاة محاكم الاستئناف الإداري أوفر علماً وأعمق نظراً وأشمل رؤية ً مني، إلا أنني أدعوهم لإعادة النظر في هذا التوجه وتمحيصه مرة ً أخرى لما يترتب عليه من عواقب وخيمة على أمن المجتمع واستقرار الدولة، وعلى طمأنينة الناس على حقوقهم وحرياتهم التي لا يثقون بغير القضاء أن يراقب عدم المساس بها، وأنه متى تعرض أحد ٌ لما يعتقد من وجهة ِ نظره أنه اعتداء ٌ على حريته وتعسف ٌ في حقه، وتجاوز للصلاحيات والأنظمة من أي جهة ٍ ضده، ثم لم يجد له باباً مفتوحاً للطعن على تلك الإجراءات والاعتراض عليها، أن ذلك لا بد سينعكس سلباً على نواح ٍ أكثر خطورة ً وأسوأ أثراً من النواحي التي دعت إلى عدم سماع اعتراضات الناس على هذه الجهة الحكومية أو تلك فقد ينشأ داخل المجتمع أفراد ٌ ناقمون عليه ، موتورون، يشعرون بالقهر والظلم، وتتأثر رابطة ولائهم وحبهم لدولتهم ووطنيتهم . وهذه مسألة ٌ مقلقة تتعارض مع المبدأ الأصيل الذي نتحدث عنه، وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يتاح فيه مراجعة مثل هذه الأنظمة وإزالة كل العوائق التي تمنع الناس من ممارسة حقهم الأصيل في اللجوء لقضاء ٍ مستقل ٍ نزيه ٍ فاعل ٍ لتقديم اعتراضاتهم وتظلماتهم. إنها دعوة ٌ صادقة ٌ مشفقة لجعل سلطة القضاء هي الحاكمة على جميع الأعمال والتصرفات سواء ً من الأفراد أو جهات الحكومة، حتى يأمن الناس على حقوقهم ويطمئنون إلى أن العدالة مكفولة ٌ وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وهو رب العرش الكريم.