حق التقاضي ليس مجرد شعار

مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

حين تحدثت في المقال السابق عن أهمية حق التقاضي وضرورة ضمانه لكل محتاج إليه من طالب حق أو مشتك من ظلم، كان من الأهمية بمكان التأكيد على أن هذا الحق حتى يكون مكفولاً على الوجه الصحيح، وحتى يكون محققاً للغاية الشريفة التي يهدف إليها، لا بد من إحاطته بعدة ضمانات لا يكون حق التقاضي متحققاً على الوجه الصحيح دون توافرها. وفيما يلي أشير إلى أبرز هذه الضمانات التي ربما لا يفي المقام هنا بالحديث عنها بشكل مستوعب, ولكن لعل الإشارة تكون كافية للتنبيه على أهمية هذه المسائل: أولاً: تنفيذ الأحكام القضائية: إذ لا يكون للتقاضي أي قيمة إذا لم يفض إلى تنفيذ ما ينتهي إليه من أحكام يراد لها أن تكون موصلة للحقوق، وفاصلة في النزاعات، وظاهرة عدم تنفيذ الأحكام في تزايد مستمر سواء من بعض الأفراد الذين دأبوا على التمرد والاحتيال، ولم يقابلوا بما يستحقونه من صرامة وحزم الجهات التنفيذية، والأسوأ من ذلك ما تقوم به بعض الجهات الحكومية من تهاون وتهرب من تنفيذ الأحكام القضائية، وهذه ظاهرة مقلقة جداً، يجب الوقوف في وجهها بكل الوسائل والسبل، وقد نص النظام الأساسي للحكم في مادته الخمسين على أن مسؤولية تنفيذ الأحكام منوطة بالملك مباشرة أو بمن ينيبه، وما ذلك إلا لأهميتها ومدى تأثيرها البالغ في حقوق الناس. وإذا كان كثير من الناس يشتكون من طول إجراءات التقاضي، والضعف العام في مخرجات الأحكام، فليس أقل من أن تنتهي معاناة صاحب الحق بصدور حكم قضائي يحفظ له حقه، حيث لا يجوز بحال أن يبقى هذا الحكم حبراً على ورق، ويبقى صاحب الحق يطارد هنا وهناك ويستجدي الجهات التنفيذية في سبيل الوصول إلى حقه الضائع. خاصة إذا ما لاحظنا أن كثيراً من أصحاب الحقوق يضطرون اضطراراً للقبول بالأحكام القضائية التي لا تتضمن إلا جزءاً قد يكون أقل بكثير من الحق الضائع عليهم وذلك لأسباب ليس هذا مكان بسطها لكن لعل أبرزها: أن صاحب الحق ربما لا تسعفه وسائل الإثبات لكامل ما يدعيه لوقوعه ضحية الثقة وعدم الكتابة والتوثيق أو لغير ذلك. أو في دعاوى التعويض التي ما زال القضاء لدينا متخلفاً عن ركب الأمم المتحضرة في التعاطي معها، والأدهى من ذلك أن تكون إضاعة الحقوق وضعف آليات التعويض لدينا منسوبة إلى الشريعة الإسلامية والشريعة أعدل وأحكم وأوسع أفقاً من تلك الأحكام المهدرة للحقوق باسمها. أقول إنه مع كل تلك الإشكاليات ومع قبول الناس بهذه الأحكام القضائية على علاتها، إلا أن الأسوأ أن تبقى تلك الأحكام دون تعويض مما يزيد العلة علة. ثانياً: من أهم ضمانات التقاضي أيضاً، أن من حق كل صاحب حق أو دعوى أو مظلمة أن تنظر في دعواه محكمة مستقلة مُشكلة وفقاً للشرع والنظام وقائمة على جميع ضمانات التقاضي وحقوق المتقاضين، ومن أهم هذه الحقوق: أ‌- حق الدفاع الشرعي الذي لا يعتبر أي حكم صحيحاً أو معتبراً أو عادلاً أو شرعياً إذا ما أهدر فيه حق الدفاع الشرعي، وحق الدفاع يستلزم أن يستمع القاضي إلى وجهة نظر الطرفين فلا يقضي لأحدهما في غياب الآخر إلا وفقاً للطرق التي رسمها النظام في حالات الحكم الغيابي بعد تبلغ المدعى عليه وامتناعه عن الحضور. ب‌- حق مواجهة الأدلة ويعني أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم بناء على أي دليل دون أن يعرض هذا الدليل على المحكوم عليه ويمكنه من مناقشته والرد عليه أو الطعن فيه. ت‌- ومن ضمانات التقاضي التي تكفلها المحاكم المستقلة القانونية حق الاعتراض على الأحكام، حيث يجب أن يُضمن لكل صاحب دعوى أو لكل من صدر بحقه حكم أن يعترض عليه لدى درجة قضائية أعلى من التي حكمت عليه، حيث تراقب صحة ما انتهى إليه الحكم الأولي من نتائج وما بني عليه من أسباب، وعدم إخلاله بأي مقتضى إلزامي شرعي أو نظامي. وهذا مما أكده نظام القضاء الجديد الذي أوجد مرحلتين للتقاضي ومحكمة عليا تتولى مهمة النقض. وقد يعتقد القارئ الكريم أن الحديث عن هذه الحقوق يعد من نافلة القول لكونها معلومة لا تخفى على أي أحد فضلاً عن المتخصص، ولكن سبب الحديث عنها هو التأكيد على أنه لم يعد مقبولاً قط وجود عدة لجان شبه قضائية أو إدارية تتولى النظر في بعض النزاعات حسب أنظمة ونصوص خاصة، وهذه اللجان تفتقر إلى ضمانات التقاضي كافة، وقد تعرض كثير من الحقوق إلى الضياع بسبب هذه اللجان. وقد نص النظام القضائي الجديد على معالجة وضع هذه اللجان، وتأجيل البت في بعضها وهي (لجنة المنازعات المصرفية في مؤسسة النقد ــ ولجنة المنازعات المالية في هيئة سوق المال ــ ولجنة الجمارك)، ومع ذلك فما زالت اللجان التي لم تؤجل تمارس أعمالها بوضعها السابق نفسه دون أي تغيير ومنها لجنة منازعات الأوراق التجارية في وزارة التجارة. وهذه اللجان عند النظر في واقعها المؤلم لا توفر للمتداعين أدنى درجات العدل أو ضمانات التقاضي البسيطة، فأحكامها نافذة على حقوق الناس فور صدورها، وطرق الاعتراض على أحكامها ليست فاعلة ولا عادلة. واستمرار وضع هذه اللجان على حالها من شأنه حرمان المتقاضين في تلك المجالات من حق شرعي وقانوني كفلته كل الشرائع والأنظمة ومبادئ حقوق الإنسان، مما يجعل المبادرة بتصحيح وضع هذه اللجان واجباً من واجبات العدل. ثالثاً: كما أن من أهم ضمانات التقاضي أيضاً العناية بتسبيب الأحكام القضائية، حيث لا بد أن يكون هذا التسبيب مستوعباً لكل جزئيات المحكوم به وموضحاً للوجه الذي أخذ به القاضي في تكييف الواقعة وتنزيل الحكم الشرعي أو القانوني عليها، ولا يجوز أن يكتفي القاضي بأسباب عامة من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية شريفة، كما أن من التسبيب الواجب للحكم أن يجيب القاضي في حكمه ويناقش كل ما أدلى به الخصوم في الدعوى من أدلة وبينات يعتقدون فيها ما يدل على حقهم، حيث من الملاحظ على كثير من الأحكام خلوها من الرد على أدلة الخصوم بل حتى يتجاهل القاضي إيراد ما قدمه الخصوم من أدلة وبينات، وهذا مما يحول بين محكمة الاستئناف أو المحكمة العليا وبين بسط رقابتهما على الأحكام والتحقق من صحتها وعدالتها. كما أنه يحرم الخصوم من حقهم في محاكمة عادلة مستوفية لوجهة نظر كل طرف، ولعل الجهات القضائية تولي هذا الجانب ما يستحقه من أهمية بالتأكيد على أصحاب الفضيلة القضاة، أن يعتنوا به. رابعاً: من الجوانب المهمة كذلك وهي مسألة طال الخوض فيها ومن المأمول أن تجد معالجة شاملة في ظل ما صدر من أنظمة قضائية تهدف لتحسين مستوى الوضع الحقوقي والقضائي، تلك هي مسألة التأخير في نظر القضايا، التي أقلقت ولاة الأمور – وفقهم الله – وأصبحت مصدر إزعاج لهم، وقد نبه عليها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده – أيدهما الله – في أكثر من مناسبة، مما ينبغي معه إيلاؤها ما تستحق من أهمية وعناية من قبل القائمين على القضاء – وفقهم الله – خاصة في كثير من الحالات التي يكون تأخير نظر القضية فيها لأسباب تنطوي على مخالفات يجب التعامل معها بحزم أكثر حماية لحقوق الناس، أو التأخير لأسباب تعتبر أخطاء تنظيمية كما أشرت إلى بعضها سابقاً من كثرة تشكيلات وتنقلات القضاة التي لا تولي أدنى اعتبار للقضايا المتأخرة ولا تشير إلى أهمية إنهائها. أما تأخير القضايا الذي يعود لأسباب أخرى خارجة عن إرادة القاضي أو إرادة الجهة القضائية فهي التي أطالب بضرورة الالتفات إليها ومعالجتها بعد تشخيص دقيق وشامل لتلك الأسباب واقتراح أسباب مجدية للقضاء عليها. وختاماً: فهذه ليست سوى خواطر مرتبطة بما سبق من الحديث عن حق التقاضي لارتباطها الوثيق به كما أشرت، وما توفيقي إلا بالله هو حسبي ونعم الوكيل.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني
الأوسمة: