خطبة الوداع .. قراءة حقوقية (1 من 2)

مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

في مثل هذه الأيام من السنة العاشرة للهجرة النبوية، قاد الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوافل الحجيج، الذين قدموا من كل مكان ليفوزوا بحجة مع نبيهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهتدوا بهديه ويقتدوا بنسكه، وكانت كل المؤشرات والدلائل في تلك الحجة تشير إلى قرب أجل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها نزول قول الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، حيث نزلت في يوم عرفة. وقد روي أن عمر - رضي الله عنه - لما سمعها بكى وقال: ليس بعد التمام إلا النقصان. وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كرر أكثر من مرة في تلك الحجة كلمات تدل على توديعه أمته ووصيته لهم ويشهدهم على أنه بلَّغهم البلاغ المبين وأقام عليهم الحجة فيسألهم: ألا هل بلغت؟ فيقولون جميعاً: اللهم نعم. فيقول: اللهم فاشهد. وفي هذه الأجواء العظيمة التي اجتمع فيها شرف الزمان وشرف المكان وشرف العبادة. وبأسلوب وداعي مؤثر حزين، ألقى رسول الله - عليه الصلاة والسلام- خطبته العظيمة المشهورة (خطبة الوداع) التي جمع فيها خلاصة ما اشتملت عليه دعوته من توحيد الله وطاعته وبيان ما للناس على بعضهم من حقوق وواجبات، بما يمكن وصفه بأنه دستور حكم ونظام حياة. هذه الخطبة الجليلة التي ما زال صداها يرن في عمق التاريخ، التي لو تمثلتها أمة الإسلام اليوم لما كانت على ما هي عليه اليوم من انحطاط وتخلف وضياع حقوق. أدهشتْ هذه الخطبة دعاة حقوق الإنسان من غير المسلمين، لأنهم وجدوا فيها سبقاً إسلامياً إلى تقرير مبادئ حقوق الإنسان قبل قرون طويلة من التفاتهم إليها ودعوتهم لها. كما أن تميزها ليس بالسبق فقط، وإنما بكونها ربانية المصدر، تعتمد على إيقاظ الضمائر المؤمنة في نفوس المؤمنين ليمتثلوا هذه الأحكام بقناعة وخوف من الله ورجاء ثوابه سبحانه. امتلأت هذه الخطبة العظيمة بعديد من المبادئ القانونية والحقوقية التي أحاول في إيجاز شديد استقراءها والتنبيه إليها، مع التأكيد مسبقاً على أن مثل هذا العمل يحتاج إلى بحوث واسعة من ذوي الاختصاص لكشف أسرار هذه الخطبة، واستنباط أحكامها. وقبل الشروع في المقصود, أحب التنبيه إلى أن خطبة الوداع التي ألقاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لم تكن في الأصل خطبة واحدة، وإنما هي عدة خطب ألقاها في أيام متفرقة من أيام حجته الشريفة -عليه الصلاة والسلام-، وقد وردت بها روايات عديدة تتضمن بعضها زيادة على بعض وهذه الخطب ثلاث: (الأولى يوم عرفة في عرفة والثانية يوم النحر في منى والثالثة أوسط أيام التشريق في منى). ونظراً لكثرة الروايات التي وردت بها هذه الخطب النبوية الشريفة والتي لا يتسع المقام لاستقصائها وجمعها، فإني أقتصر على أبرزها مما كان أكثر شمولاً، وقد حرصت على إيراد نصوصها تيمناً باللفظ النبوي الشريف وحرصاً على الاستنباط من نص حاضر أمام عين القارئ الكريم. نص الخطبة الشريفة: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا, أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها. ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاه موضوعة غير السدانة والسقاية، والعمد قود, وشبه العمد ما قتل بالعصى والحجر، وفيه 100 بعير فمن زاد فهو من أهل الجاهلية. أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم، أيها الناس: إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله 12 شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. أيها الناس: إن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حق: لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تعظوهن، وتهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت ؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس: إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. أيها الناس: إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، وإنه لا وصية لوارث، ولا تجوز وصية في أكثر من ثلث. والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويقلبها على الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، والسلام عليكم ورحمة الله. ومن الروايات الواردة في هذه الخطبة: حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع للناس: ''أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده، ألا وإن الشيطان قد أيس من أن يُعبد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به''. وأتت بعض الروايات بطاعة ولي الأمر في غير معصية. ففي صحيح مسلم بسنده عن أم الحصين قالت:'' حججت مع رسول الله حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة. قالت: فقال رسول الله قولا كثيرًا، ثم سمعته يقول: ''إن أُمِّرَ عليكم عبد مجدع – حسبتها قالت أسود – يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا''. المبادئ القانونية في خطبة الوداع: أولاً: تقرير المساواة: التي تقوم على إلغاء أي أساس للتفريق بين الناس لاعتبارات اللغة أو القبيلة أو العرق أو المال والجاه، وأن أساس التفاضل المعتبر في الإسلام هو بمقدار الإيمان بالله وتقواه، وقد أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المبدأ بقوله وفعله ؛ أما قوله فحين قال: ''أيها الناس: إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى''. وأما فعله فحين كان واقفاً هذا الموقف العظيم أمام قبائل العرب ومعه اثنان من الموالي أحدهما آخذ بخطام ناقته وهو بلال الحبشي، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر وهو أسامة بن زيد. ليكونا من أقرب الناس إليه في هذا المقام الشريف ومن حوله سادات العرب. وقبل ذلك فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلن هذا المبدأ في جمع عظيم يضم عشرات الآلاف من الحجاج الذين توحدوا في مظهر واحد لا يتميز بعضهم عن بعض إلا بما في قلوبهم من تقوى الله. ثانيا: تعظيم الحرمات الثلاث الأساسية (الإنسان – الزمان – المكان). المقصد الأساسي لتعظيم هذه الحرمات وتحديدها هو تضييق مساحة الظلم والعدوان بين الناس إلى أضيق حدودها عبر وازع الإيمان والتقوى أولاً، ثم عبر تشريع العقوبات الزاجرة. فقد أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرمة الأشهر الحرم وعظمتها عند الله وأعلن أن حرمتها تعتبر من أمور الجاهلية التي أقرها الإسلام وحماها واحترمها، حيث كان العرب في جاهليتهم يُعظِّمون هذه الأشهر الحرم ويكفون عن القتال فيها. وهذا يدل على إثم وجريمة المعتدين من الحوثيين الذين يدّعون الإسلام ويرفعون شعاراته، وهم لا يتورعون عن سفك الدماء المعصومة والاعتداء في هذه الأشهر الحرم. كما أكد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريم المكان، وهو البلد الحرام الذي لا يختلى خلاه ولا يُنفَّر صيدُه ولا يحل فيه الظلم ولا الاعتداء ولو بمجرد الهم ''ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب السعير''. ثم قرر عليه الصلاة والسلام أن حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم فيما بينهم كحرمة الأيام الحرام في البلد الحرام، ليؤكد بذلك حرمة المسلم عند الله، وأن الاعتداء على دم المسلم أو عرضه أو ماله من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر التي لا يغفرها الله سبحانه، لأن ما اقترفه المسلم من معاص بينه وبين ربه، قد يغفرها الله بالتوبة، إلا ما كان فيه حقوقاً للناس فإن الله لا يغفره بمجرد التوبة. وهذا المبدأ العظيم مما يغفل عنه كثير من الناس، فيجترئون على دماء المسلمين بالقتل أو الجرح، أو أعراضهم بالغيبة أو السب والتشهير والقذف، أو أموالهم بالسلب أو السرقة أو الغش والتحايل أو البيوع والمعاوضات المحرمة. ولا يدرون أنهم بذلك يقترفون أعظم الإثم ويتحملون أكبر الأوزار، التي تحبط ما عملوه من أعمال صالحة وإن كانت كالجبال. هذا المبدأ العظيم، كاف وحده لإسعاد حياة الناس وحماية حقوقهم من الاعتداء والظلم، والقضاء على الخصومات والمنازعات التي أثقلت كاهل الجهات القضائية والأمنية، وملأت حياة المسلمين بالتشاحن والبغضاء والإحساس بالظلم. وللحديث بقية ـ بإذن الله ـ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني