خطبة الوداع.. قراءة حقوقية (2 من 2)

مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

ويستمر بنا الحديث عن الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مستعرضين ما تضمنته خطبته الشريفة من مبادئ حقوقية ٍ عظيمة جمعها لأمته في ألفاظ ٍ بليغة ٍ موجزة، مع تمام الرحمة والشفقة والحرص على هدايتهم واستقامتهم على نهجه القويم بعد موته إلى قيام الساعة. المبدأ الثالث: أداء الأمانة ويشمل ذلك عموم معنى الأمانة لأن هذا اللفظ من الألفاظ العظيمة التي لا يمكن الإحاطة بها في عبارات ٍ موجزة، فالأمانة عموماً تشتمل معنيين: 1- الأمانة بين الإنسان وربه عز وجل. 2- والأمانة بين الإنسان وبين الناس. فأمانة الإنسان مع ربه تعني عبادته لله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: (وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). ويشمل ذلك الالتزام والتقيد التام بشرع الله - سبحانه-وما فرضه من أحكام. أما الأمانة بين الإنسان والناس فهي أن يقوم الإنسان بما عليه من حقوق ٍ للخلق سواء ً كانت هذه الحقوق واجبة ً عليه بحكم الشرع ِ ابتداء ً أو كانت واجبة ً عليه بالتزامه بها لغيره بموجب عقود ٍ أو معاهدات ٍ أو وعود. وسواء ً كانت هذه الحقوق مالية ً، كالنفقة، أوالزكاة، أو ثمن المبيع ونحوها. أو كانت غير مالية ٍ كبر ِّ الوالدين، أو صلة الأرحامِ أو حسنِ الجوار، أو حق التربية للأولاد، أو حق حسن العشرة بين الزوجين. وإن أعظم الحقوق الواجبة بين الناس، وأشدها خطراً، الحقوق الواجبة بين الراعي ورعيته، وهو حق ولي الأمر المسلم على رعيته، في طاعته بالمعروف، وتحريم وتجريم الخروج عليه، وكذلك حق الرعية ِ على ولي أمرهم من واجب النصح ِ لهم ورعاية ِ مصلحتهم ِ وإقامة شرع الله بينهم، والتصرف فيهم بما تقتضيه مصلحتهم، فلا يولي عليهم إلا من علمه قوياً أميناً، القوة والأمانة الدينية والدنيوية. ولعظمة هذا الحق فإن علماء المسلمين – رحمهم الله – كانوا يتكلمون عنه في كُتُب ِ العقيدة والتوحيد، مع أنه من مسائل الفقه والحلال والحرام، وفي هذا لفتة ٌ واضحة ٌ إلى تعظيم الشريعة الإسلامية ِ لهذا الأمر وعنايتها به وأنه أساس قيام ِ الدين ِ وبه استقامة الناس على طاعة ِ الله وتحكيم شريعته، ومن دون ِ إمام ٍ مسلم ٍ يسمع ُ له الناس ويطيعون، لا يكون ثم َّ دولة ٌ إسلامية ٌ ولا حكم ٌ بالشريعة. ومن أهم معاني الوفاء بالعقود المأمور به شرعاً والداخل ِ في عموم أداء الأمانات، أن يكون تنفيذ هذه العقود بحسن ِ نيةٍ وصدقٍ ونُصح، وألا يكون في نية ِ أحد العاقدين، أي إرادة ٍ للغش ِ أو التدليس ِ أو التحايل. وهذه مسألة ٌ تؤكد ُ عليها القوانين ُ الوضعية، ويوردها المتعاقدون كشرط ٍ في عقودهم، إلا أنها في الشريعة ِ الإسلامية أمانة ٌ أوجب الله الوفاء بها، وتعد مشروطة ً بحكم الشرع ِ وإن لم تذكر في العقد. ومن صور ِ أداء الأمانة ِ أيضاً قيام الموظفين والمسؤولين بما عليهم من واجبات الوظيفة، وفقاً لما أوجبه ولي الأمر المسلم من أنظمة. وأنه لا يجوز لأي موظف ٍ أو مسؤول أن يتخذ َ من وظيفته وسيلة ً للإثراء والتكسب ِ أو أن يمتنع عن القيام بما عليه من واجبات، إلا بمقابل ٍ يدفعه الناس إليه، أو أن يجعل من وظيفته وسيلة ً لتحقيق مصالحه الشخصية، كأن يستخدم َ صلاحياته لتحقيق أغراض ٍ خاصة، وهذه من أبشع صور الفساد الذي تحاربه الدول والأمم والأنظمة في العالم، وهو مما حاربه الإسلام وجرّمه وشنّع على فاعله في نصوص ٍ كثيرة ٍ مشهورة، إلا أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الخطبة الشريفة: (فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها). يعد شاملاً لكل ذلك وكافياً للدلالة على كل ِّ أنواع الأمانات ِ العامة ِ والخاصة. وأنه لو قام الناس بأداء أماناتهم لصلحت حياتهم وطابت لهم المعيشة وتحقق لهم الأمن والأمان والعدل والسلام والصلاح والفلاح. ثالثاً: إبطال وإلغاء الأعراف والتقاليد المخالفة للشريعة الإسلامية فالكتاب ِ والسنة ُهما الميزان ُ الذي يُعرف ُ به الحق ويتوصل ُ به إلى العدل، وكل ُّ ما خالف الشريعة الإسلامية من أعراف القبائل، أو عادات التجار، أو عمل ِ أهل العصر، كل ُّ ذلك باطل ٌ لا يجوز أن يكون له اعتبار، أو أن تُعارض به أحكام ُ الإسلام.فالعقود والبيوع والمعاملات، كلها خاضعة ٌ لحكم ِ الإسلام، الذي لم يمنع ِ الناس من المعاملات ِ التي فيها مصالحهم، بل وسّع قاعدة َ إباحتها، وجعل الأصل في المعاملات ِ الحل ّ والإباحة، فلا يحرم منها إلا ما دل ّ الدليل من الكتاب ِ والسنة ِ على تحريمه، وكل ُّ من أفتى بتحريم ِ معاملة ٍ أو عقد ٍ أو بيع ٍ أو شرط فهو مطالب ٌ بالدليل، وقد نهى الله - سبحانه - عن القول عليه بغير علم ٍ خاصة ً في تحريم الحلال، وجعل ذلك من الكذب عليه سبحانه، وأوضح أن إثم ذلك عظيم ٌ وخطَرَه كبير, ما يؤكد ُ سعة هذه الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل ِّ زمان ٍ ومكان ٍ وحال. رابعاً: تحريم ُ الربا وهذا المبدأ الحقوقي في جانب المال والاقتصاد والتجارة، من أعظم مبادئ الإسلام التي شدد الله حكمها، وأعلنها في كتابه وعلى لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم، وبيَّنها أشد َّ البيان، وأن صاحب الربا موعود ٌ بالحرب من الله ورسوله، وهذه مسألة معلومة ٌ لكل مسلم ٍ لا يماري فيها إلا معاند ٌ مكابر، وهي مما أجمع عليه المسلمون قديماً وحديثاً، وقد رأينا جميعاً الأزمات المالية التي وقعت فيها دول العالم بسبب اعتمادها على النظام الربوي، وأعلن كثير ٌ من كبار رجال الاقتصاد الغربي، أن النظام َ المالي َّ الإسلامي هو الحل، وهو المخرج من هذه الأزمة. وكما حرّم الله الربا فقد أبدل المسلمين خيراً وأبرك َ منه، وهو البيع الحلال المبرور المبني على الصدق وعدم ِ الغش. وشرع الله من الحلول ما يغني عن الربا من قرض ٍ حسن ٍ وإنظار ٍ للمدين المعسر وتكافل ٍ وصدقة ٍ بين المسلمين. خامساً: التساوي بين الناس أمام حكم الشرع أو القانون فلا يجوز محاباة ُ أحد ٍ في تطبيق أحكام الشرع أو القانون، ولا يجوز استثناء ُ القوي من القانون وتطبيقه على الضعيف. وقد أكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في خطبته الشريفة ِ حين بدأ بقرابته وأهل بيته في تطبيق ما يأمر به من أحكام، ففي تحريم الربا ووضع ِ ربا الجاهلية ِ قال: (وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب). وفي وضع ِ دماء الجاهلية قال: (وأول دم أبدأ به دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب). وهذه قيمة ٌ أساسية، ومبدأ جليل ٌ من مبادئ الإسلام َ تجعل ُ الناس يطمئنون بهذا الدين، ويثقون أنه من عند ِ الله حقاً وصدقاً، لأن الله - سبحانه - ليس بينه وبين أحد نسب ٌ إلا بالتقوى والإيمان. وليس َ أحد ٌ معصوماً أو مستثنى ً من حكم ِ الله وعقوبته ِ إن عصاه ولو كان ذلك رسوله وحبيبه - صلى الله عليه وسلم: (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك، لئن أشركت َ ليحبطن َّ عملك ولتكونن من الخاسرين). وذلك بخلاف ِ الأنظمة الوضعية ِ التي أحاطت بعض فئات المسؤولين أو الموظفين في الدولة بأنواع من الحصانة تميزهم عن غيرهم من الناس. أما في الإسلام فأكرم ُ الخلق محمد ٌ - صلى الله عليه وسلم، مكّن من القصاص من نفسه. سادساً: إن الأساس في الجنايات شخصية العقوبة ووجوب إقامة الحدود والعقوبات الشرعية حيث ألغى - صلى الله عليه وسلم - ما كان سائداً في الجاهلية ِ من أخذ الإنسان بجريمة ِ غيره ِ من باب الثأر ِ والتشفي في الانتقام، والتجاوز ِ والعدوان، بحيث ُ يُقتل أكثر من القاتل، فيقتل معه أبوه أو أخوه أو جمع ٌ من قرابته ِ وعشيرته، لإظهار القوة والانتصار. فأبطل ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل َّ دماء الجاهلية وما فيها من ثارات ٍ قبلية. وأوضح أن عقوبة الإسلام في القاتل العمد هي القصاص من القاتل ِ فقط، وأن القتل شبه العمد فيه الدية ُ مائة ٌ من الإبل، ومن زاد فهو من الجاهلية. وأكد - صلى الله عليه وسلم - هذا المبدأ مرة ً أخرى في الرواية التي جاء فيها قوله: (ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده). سابعاً: تأكيد حق المرأة في الحياة ِ الكريمة ِ واستقلال ِ شخصيتها ورعاية حقها وهذا المبدأ مما لا يحتاج ُ إلى بيان ٍ أو إيضاح، حيث تضافرت على تأكيده نصوص الشريعة ِ الإسلامية، فأعطت للمرأة الحق الكامل في مساواتها بالرجل في التكاليف والواجبات، إلا ما اقتضت خصوصية فطرتها أن تنفرد به من أحكام ٍ تبعاً لفطرتها، وأن الإسلام قد ضمن للمرأة الحياة الكريمة، والاستقلال في الشخصية، بحيث ُ فرض لها الميراث والنفقة وأعطاها حق الملكية والتصرف من بيع ٍ أو شراء ٍ أو تجارة. وكل ما تحتاج إليه في حياتها الطبيعية كالرجل تماماً. بل أوصى الرجل بها خيراً وأوجب لها حقوقاً عليه، كما أوجب له حقوقاً عليها. وفي تشريع هذه الأحكام ِ أيضاً تأكيد ٌ لعناية الإسلام ِ بتكوين الأسرة، وأنها المحضن الطبيعي للإنسان، والعنصر الأساس لكل مجتمع ٍ ودولة ونظام حياة. ثامناً: تحريم وإبطال كل صور الوصايا الجائرة تاسعاً: وجوب المحافظة على الأنساب وتحريم التعدي عليها أو السعي للعبث بها وذلك بتحريم الزنا، وأن الولد يُنسب للزوج صاحب الفراش، وتحريم انتساب الرجل لغير أبيه ولعن من فعل ذلك والتشديد في عقوبته. عاشراً: وجوب طاعة ولي الأمر المسلم في المعروف حتى إن كان عبداً أسود مجدوع الأنف، ما دام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم. وسبق بيان ذلك أول هذا المقال. وأخيراً أختم بما قاله الكاتب البريطاني (هربرت جورج) عن خطبة الوداع إذ قال: “حجَّ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حجةَ الوداعِ من المدينة إلى مكة قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شَعبِه موعِظةً عظيمة؛ إنَّ أولَ فقرةٍ فيها تَجْرِفُ أمامها كلَّ ما بين المسلمين من نَهبٍ وسَلبٍ ومن ثاراتِ ودماء، وتجعلُ الفقرةُ الأخيرة منها الزنجيَّ المؤمنَ عِدلاً للخليفة. إنها أسَّسَت في العالَمِ تقاليدَ عظيمةً للتعامُلِ العادل الكريم، وإنها لتنفخُ في الناسِ رُوحَ الكرمِ والسماحة، كما أنها إنسانيةُ السِّمةِ مُمكِنةُ التنفيذِ؛ فإنها خَلقَت جماعةً إنسانيةً يُقَلِّلُ ما فيها مما يَغمُرُ الدنيا من قَسوةٍ وظُلمٍ اجتماعيٍّ عما في أيِّ جماعة أخرى سبقَتها'' (معالم تاريخ الإنسانية لولز 3/640-641.). فاللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا ونبينا محمد وآله وأزواجه وأصحابه جميعاً والحمد لله رب العالمين.

 

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني