طفرة المقاولات. . وكيف يستفاد منها
مما اتسم به عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - ما تشهده المملكة من طفرةٍ وحركةٍ دءوبةٍ في مجال البناء والعمران، ومشاريع تنمويةٍ عملاقة، من تشييد المدن والجامعات والمصانع والمباني ذات المواصفات العالية، بحيث لا تكاد تقع عينك إلا على مشروعٍ يُعمر أو مبنى يشيد وفق حركةٍ لا تتوقف ليلاً أو نهاراً. إلا أن مما يؤسف له كثيراً أن يتزامن مع هذه الطفرة في مجال المقاولات ما يدور من جدلٍ هذه الأيام حول جدارة المقاول السعودي وشركات المقاولات الوطنية، بحيث أصبح المقاول السعودي متهماً بسوء التنفيذ ورداءة العمل دون استثناء ولا إنصاف ولا نظر في الظروف التي أوصلت بعض شركات المقاولات الوطنية إلى هذا المستوى المتردي. وفي مقال سابق استعرضت شيئاً من الملاحظات حول صناعة المقاولات ودور القضاء فيها على وجهٍ مقتضب من خلال تجربتي في العمل القضائي سواء في القضاء التجاري أو الإداري، ومما دعاني إلى العودة لهذا الموضوع أن ما تشهده المملكة حالياً من طفرة كبيرة في مجال المقاولات، يعتبر مرحلة مهمة من تاريخ البناء والتشييد وتأسيس المشاريع المتنوعة التي يتوقع لها - بإذن الله - أن تخدم الأجيال القادمة، وهذا مما يبعث على الفرح والفخر معاً، إلا أن مما يكدر صفوه ويعكر بهجته، أن يختار المشككون في جدارة المقاول السعودي هذا التوقيت بالذات لشن حملة التشويه والدعوات لإبعاد المقاول السعودي وحرمانه من المشاركة في بناء وطنه والانتفاع كغيره من ثمار هذه التنمية والتطوير، فلا يخفى أن هذه المشاريع عادت وتعود بالنفع الكبير على شرائح كثيرة من المجتمع، فلماذا يكون المقاول السعودي الخاسر الوحيد فيها؟ إن أصحاب هذه الدعوات والآراء، يتحدثون بعيداً عما توجبه الوطنية الصادقة، والإحساس بالرابطة تجاه الوطن وأبناء الوطن، إذ لو أنهم انطلقوا في حديثهم من الوطنية الصادقة والحرص على المصلحة، لكان الأولى بهم أن يقدموا من المقترحات ما يسهم في رفع كفاءة المقاول السعودي والنهوض بمستواه، وتهيئته للوصول إلى المنافسة العالمية لشركات المقاولات الكبرى. والمقاول السعودي إنما هو المواطن السعودي، فلماذا نراهن على جدارة المواطن وكفاءته وقدرته على التفوق العالمي وندعو لمساندته ودعمه وتشجيعه في المجالات كافة، بينما نحارب المقاول السعودي ونسعى للقضاء على محاولاته لبناء وتأسيس مشروع مقاولات يخدم وطنه ويوفر له ولغيره من المواطنين فرصاً للعيش الكريم؟ ألم يكن للدولة موقفها الحازم والجاد في سعودة الوظائف والمهن كافة، مع قوة المعارضة لهذا التوجه وما ترتب على الأسلوب المتبع فيه من آثار سيئة في مشاريع صغيرة يملكها مواطنون بسطاء، فكانت السعودة سبباً في فشل مشاريعهم وعرضها للتقبيل؟ فلماذا لا يكون للجهات الحكومية هذه القناعة نفسها لفرض المقاول السعودي وإعطائه الفرصة للوصول لدرجة الجودة والتميز، بدلاً من تعالي الأصوات لمحاربته وإجباره على التخلي عن مشروعه وإعلان إفلاسه، ولماذا تتباطأ الجهود الرسمية والخاصة التي يفترض بها أن تقف مع المقاول الوطني بقدر ولو بسيط من الدعم والمؤازرة، ومساعدته على حل ما يعترض طريق نجاحه من عقبات كثيرة وصعوبات أعتقد أنه لا يمكن له تجاوزها أو تخطيها إلا بمعجزة. إن من الأمور المسلَّمة أنه لا يمكن لمشروع من المشاريع أن يولد كبيراً ضخماً قادراً على المنافسة والصمود حتى في الظروف العادية، فكيف نطالب المقاول السعودي بأن يصمد ويتفوق وينافس ويحتفظ بجدارته وبأعلى معايير الجودة، وهو لا يزال وليداً أو ناشئاً أو على الأقل متوسط المستوى مقارنة بالشركات العالمية العملاقة في مجال المقاولات، التي لم يكن لها أن تصل إلى هذا المستوى إلا بجهود كبيرة ورؤوس أموال ضخمة وحماية حكوماتها لها، وأنظمة إدارية وقضائية تكفل لها أبسط حقوقها. إن من المؤسف كثيراً أن نسعى لنفاخر بمشاريع ضخمة في وطننا لم تشيدها شركاتنا، أو لم يكن لشركاتنا الوطنية نصيباً فيها. كما أن من المؤسف أيضاً أن نترك هذه الفرصة التاريخية من الطفرة التي تشهدها المملكة تمر علينا دون أن يكون من ثمارها ظهور شركات مقاولات سعودية تستفيد من هذه الطفرة لتنمية وتطوير قدراتها وإمكاناتها، وأنا على يقين بأنه إذا فاتت هذه الطفرة في المقاولات دون استغلالها لإيجاد صناعة مقاولات سعودية قادرة على المنافسة بأعلى المواصفات في الجودة والنوعية، فإنا بذلك نكون حكمنا على صناعة المقاولات السعودية بالفشل والخسارة وسنبقى في مستقبلنا عالة على الشركات العالمية وصناعة المقاولات العالمية وستبقى خيرات هذا البلد في مجال الإنشاء والتعمير وتشييد المشاريع موجهة ً لجهات ٍ أجنبية وكما قال الشاعر: أحرامٌ على بلابلهِ الدوحُ حلالٌ للطيرِ من كلِّ جنسِ وفي الوقت ذاته فلا يمكن لي أن أطالبَ بأن تقوم المشاريع الحالية في الدولة على أساس هش وبنية ضعيفة في مواصفاتها وجودتها، بحجة دعم ومؤازرة المقاول السعودي، فمن حق الوطن والمواطن أن تكون هذه المشاريع منفذة بأعلى المواصفات وأحدث المعايير، وأن تكون مؤدية للغرض المقصود من إنشائها عقوداً طويلة من السنين بالقدر الممكن وفقاً لأحدث ما توصل إليه العلم الحديث وفن العمارة والتخطيط والهندسة. لكن مع ذلك أطالب بأن يتم إشراك المقاول السعودي في هذه المشاريع جميعاً بالقدر الذي يمكنه من الإفادة منها وتطوير قدراته وإمكاناته وفق قسمة عادلة وتوزيع منصف يتيح للجميع فرصة المشاركة والانتفاع واكتساب الخبرة والتجربة. كما إني أؤكد من خلال تجربتي القضائية أن المقاول الوطني بحاجة إلى الوقوف معه ومساندته في مجال القوانين والأنظمة وفي ميدان القضاء وذلك عبر ناحيتين أساسيتين هما: 1- تخصيص محاكم أو دوائر قضائية لنظر النزاعات الناشئة عن عقود المقاولات، سواء في المحاكم التجارية التي تنظر دعاوى المقاولات التجارية والعقود من الباطن، أو في المحاكم الإدارية التي تنظر في نزاعات المقاولات الناشئة عن العقود الحكومية. وذلك لأن لنزاعات المقاولات وعقودها وأعرافها طبيعة خاصة دقيقة تحتاج إلى تخصص القاضي فيها وممارسته المستمرة لنظرها وتأهيله في أحكامها عبر دورات علمية خاصة بذلك، تراعي ما استجد فيها من أحكام وأعراف دولية فالعالم الآن أصبح إلى حد كبير متشابه القوانين والأعراف حتى ظهرت فيه عقود موحدة تكاد تكون متفقاً عليها دولياً، وليس من المناسب أن يبقى قضاؤنا في منأى عن فهمها والعمل بها وإعمالها بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية. 2- كما أن من الأمور التي يجب إعادة النظر فيها؛ الاجتهادات القضائية المعمول بها حالياً في نزاعات المقاولات من، سواء في الأسس التي تحكم علاقة المقاول من الباطن مع مالك المشروع، أو مدى ارتباط عقد المقاول من الباطن بالعقد الأساسي للمقاول الرئيسي، وغير ذلك من مسائل كثيرة لها تأثير بالغ في دعاوى المقاولات، والفصل فيها بما يتوافق مع روح الشريعة الإسلامية التي تؤكد في الالتزام بالعقود والشروط مع حفظ الحقوق والوفاء بالعهود، فلا يكون القضاء عوناً للمماطل والظالم على ظلمه كما هو حال كثير من القضايا الآن. فلم يعد مقبولاً أن تبقى دعوى مقاولات منظورة أكثر من عشرين سنة وهذا واقع الآن في إحدى قضايا العقود الإدارية في ديوان المظالم!! وهذا مما يؤكد الحاجة الملحة إلى ضرورة الالتفات إلى هذا الأمر المهم وضرورة تكثيف البحوث والدراسات الفقهية والقانونية التي تساعد على رفع مستوى الاجتهاد القضائي وفق نظرة فقهية متطورة وحديثة ومراعية لخصائص عقود المقاولات وتعاملاتها، وطبيعة ما يطرأ عليها من نزاعات، والجمع بين مقاصد الشريعة وقواعدها العامة وبين ما لدى الدول الحديثة من قوانين وأعراف تتعلق بعقود المقاولات، لأن من المتوقع أن ينتج عن هذه الطفرة في المقاولات زيادة غير مسبوقة في دعاوى المقاولات، وقد يكون في هذه النزاعات صور مستجدة ونوازل قضائية لم يسبق أن مرت على المحاكم، وليس القضاء بوضعه الحالي مؤهلاً لمواجهة هذه الزيادة والتنوع والمستجدات. وحين أتحدث عن دعم المقاول الوطني لا أعني حصر هذا الدعم في ثلاث أو أربع شركات كبرى لا يكاد يخلو مشروع من اسمها، لأن هذه الشركات وصلت لحد الاكتفاء والقدرة على الصمود والمنافسة بنفسها وليست حاجتها للدعم كحاجة الشركات الأخرى التي أصبحت على أبواب الإفلاس، وهي تستحق من الدولة التفاتة دعم ومساندة في حلِّ ما تواجهه من صعوبات، من منطلق وطني أولاً وآخراً وقبل كل شيء، فهي شركات لوطن ولأبناء الوطن، فلا تدعوها تنهار ولديها أدنى مقدرة على النهوض والصمود ثم التقدم والمنافسة. وما توفيقي إلا بالله هو حسبي ونعم الوكيل.