كلية الأنظمة والعلوم السياسية.. وقفة مراجعة
في ظل ّ التطور الملحوظ الذي تشهده جامعتنا العريقة جامعة الملك سعود، وما تسعى إليه من منافسة علمية عالمية، بخطوات طموحة بتوجيه من مديرها الدكتور عبد الله العثمان، الذي باتت آثار قيادته الواعية محل تقدير وإعجاب الجميع داخل المملكة وخارجها، ونالت بها الجامعة الكثير من شهادات التفوق والثناء من أوساط محلية وعالمية، باركها ولاة أمرنا – حفظهم الله – في رسائل الشكر التي بعثوا بها إلى الجامعة أخيرا. إلا أن لي وقفة مراجعة حول ما عليه واقع التدريس في كليةِ الأنظمة والعلوم السياسية، هذه الكلية التي كانت ولا تزال – بإذن الله – منجما يستخرج منه نفائس الجواهر، من أساتذة ورجال القانون الأفذاذ، الذين كانت لهم بصمتهم الطيبة في إثراء البيئة القانونية في المملكة منذ تأسيس قسم الأنظمة، سواء في ذلك بحوثهم ومؤلفاتهم، أو مساهماتهم في النهوض بكثير من القطاعات الحكومية أو الأهلية التي شاركوا في قيادتها وصولا إلى تسلم حقائب وزارية في الدولة ومناصب قيادية كثيرة، وفي تشكيل معالم الصورة القانونية في المملكة بعامة. وفي هذه المرحلة الحالية التي تمرّ بها المملكة في عنايتها بمرفق القضاء والعدل وبالأوضاع الحقوقية والقانونية عامة، ابتداء بمشروع خادم الحرمين الشريفين - أيده الله – لتطوير مرفق القضاء، أو في الاهتمام المحلي المتزايد باستقطاب الكفاءات المتخصصة في الشريعة والقانون، لدى جميع الجهات الحكومية والخاصة وكبرى الشركات الاستثمارية، أو في دعوة خادم الحرمين الشريفين بنشر الثقافة الحقوقية بين المواطنين والمقيمين في هذه الدولة المباركة، كل هذه المستجدات تجعل الأنظار تتجه باهتمام إلى الكليات المتخصصة في الشريعة والقانون لإمداد وتلبية هذه الحاجة الكبيرة، وتحقيق الغايات والتطلعات التي ينشدها الجميع في هذه المرحلة. كما أنه في ظل ما أشرت إليه في مقال سابق من ضرورة تفعيل الإدارات القانونية في الوزارات والجهات الحكومية واستقطاب الأكفاء من المستشارين فيها، وهذا لا يتم إلا عن طريق العناية بالكليات المتخصصة في الشريعة والقانون وتهيئتها ودعمها لتخريج الكفاءات المؤهلة لملء هذا الفراغ الكبير وسد النقص في مجالات القضاء والحقوق والأنظمة. ومناسبة هذا الطرح أنني كنت أتطلع للاستعانة ببعض خريجي كلية الأنظمة للعمل في مكتبي فطلبت من أحد الأصدقاء أن يزودني ببيان بأسماء الخريجين لهذه السنة وعناوينهم للبحث فيها عن الشخص المناسب، وفعلا زودني ببيان بأسماء الخريجين في الفصل الماضي, وكذلك أسماء الطلاب المتوقع تخرجهم هذا الفصل، وقد راعني حقيقة ما رأيته من تدني مستويات النسبة الغالبة من هؤلاء الطلاب والخريجين، حيث دوِّن أمام كثير منهم عبارة (مقبول) بنسبة كبيرة والنسبة المتبقية أغلبها (جيد)، ولا أدري حقيقة عن السر وراء هذا التدني المفزع، وهل المشكلة في الطلاب؟ أم في الأساتذة؟ أم في أسلوب التدريس؟ أم في المناهج؟ أم في طرف من كل ذلك؟ إن الضرورة الملحّة والاحتياج الشديد القائم حاليا لخريجي هذه الكلية وغيرها من كليات الشريعة والقانون يستدعي إعادة النظر في واقعها، وهل هي مهيأة ٌ لتلبية حاجة الدولة وسوق العمل بالكفاءات المتخصصة، أم أن لديها من العوائق ما يحول بينها وبين تحقيق هذه الغاية. كما أني في هذا السياق أنادي بردم الهوة الواسعة والسعي الجاد المخلص لتحقيق التكامل والانسجام بين تخصصات الشريعة والقانون، الذين لم يعد من المصلحة الفصل بينهما وتخريج متخصصين في جانب لا يعلمون من الجانب الآخر إلا قليلا. لماذا يتخرج الدارس في كلية الشريعة وهو أمي ٌ في أبسط المبادئ القانونية؟ ولماذا يتخرج الدارس في القانون وهو مستبعد ٌ من العمل في القضاء، في حين أنه مسلم ٌ مكلف ٌ ثقة ٌ لا ينقصه من الشروط التي أهلت زميله دارس الشريعة إلا بحجة كونه لم يدرس الفقه وعلوم الشريعة، فلماذا لا يدمج بين هذه الكليات لتخريج متخصصين في الفقه الإسلامي المقارن بالقانون الوضعي؟. إني لأرجو ألا تعجز الخطوات الإصلاحية الحثيثة في سائر القطاعات في الدولة عن الوصول إلى هذه الخطوة التي تمليها الحاجة الحالية والمستقبلية، وحتى لا يأتي من يلمز المتخصصين في الشريعة بجهلهم القانوني، أو من يلمز المتخصصين في القانون في جهلهم بالفقه وأصوله، وأنهم ليسوا أهلا للعمل في القضاء. إن دمج كليات الشريعة بالقانون والمزاوجة بين هذين التخصصين سيكون أكبر وسيلة لإبراز محاسن الشريعة الإسلامية وتفوقها على القوانين الوضعية جميعها، كما سيكون فرصة كبيرة للإفادة من تميز القوانين الوضعية وشراحها في طريقة الكتابة والتأليف والتقنين للأحكام. وفي توسعة مدارك دارس الشريعة وتهيئته للتعامل بمهنية ودون حساسية أو نفور مع أنظمة الدولة وقوانينها المكتوبة التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية والتي يضطر للتعامل معها في أي مجال من مجالات العمل يلتحق بها. وحتى نقضي على السلبيات الحاصلة حاليا في مرفق القضاء، والتي لم تعد مقبولة قط، وتظهرنا أمام العالم بمظهر محرج، حيث يتم تعيين القضاة، ثم يجندون في رحلة طويلة للتأهيل والتدريب والدراسة، خاصة ممن يعينون في ديوان المظالم لأنهم من خريجي كليات الشريعة فيضطر الديوان لتفريغهم لدراسة الماجستير في المعهد العالي للقضاء أو في معهد الإدارة، ثم بعد تخرجهم أيضا يلحقهم بالدورات المكثفة لتأهيلهم حتى يمضي القاضي بعد تعيينه عدة سنوات في رحلة التدريب والتأهيل ليكون قادرا على فهم القضاء الإداري والقانون الإداري والقانون التجاري وسائر الأنظمة وكيفية التعامل معها، وهذا مما يهدر كثيرا من الوقت والمال ويرهق كاهل الجهات القضائية، ويمنع من الاستفادة من القاضي فور تعيينه بشكل كامل. كل هذه المستجدات تجعل من دمج كليات الشريعة والقانون وإعادة النظر في أوضاع الكليات القائمة حاليا من الضرورات العصرية لتطوير القضاء وللنهوض بالبيئة الحقوقية في المملكة. هذه وجهة نظر تحتمل الخطأ والصواب، والقول الفصل للمختصين وصانعي القرار, وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.