هيبة القضاء تبدأ من داخله

هيبة القضاء
مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

كنتُ في مقال سابق أبديت قلقي الشديد حيال ما تعرض له القضاة والقضاء في المملكة من تشويه ، وأشرت ُ إلى التناول الإعلامي المتجني وغير الموفق لموضوع ( لائحة التفتيش القضائي ) الجديدة التي أصدرها المجلس الأعلى للقضاء كما انتقدت الانفتاح الإعلامي غير المنضبط لمجلس القضاء وضربت لذلك مثلاً بما نشرته وسائل الإعلام حول صدور قرار تأديبي من المجلس بحق أحد القضاة على مخالفة ارتكبها حتى وصلت الحال إلى أن ذيلت إحدى الصحف على الخبر بعبارة :" تحتفظ الجريدة بصورة من القرار " !!.

وقد علّق أحد القراء الكرام على مقالي بقول: " إن هيبة القضاء تبدأ من داخله " وهذا صحيح تماماً فإنه لا يمكن لنا أن نطالب بحفظ هيبة القضاء إذا كانت معتدى ً عليها أو مفرطاً فيها من داخل السلطة القضائية المعنية بالحفاظ على هيبة القضاء والدفاع عنه وحماية جنابه من كل ما يسيء أو يشين .

ومن المفارقات العجيبة أنه في ذات الوقت الذي حظي فيه القضاء في المملكة بما لم يتأت له من قبل من الدعم والمؤازرة والسخاء والعناية التي قدمها خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – وأولى مرفق القضاء كامل عنايته واهتمامه وفتح أمام تطويره والنهوض به خزائن الدولة وإمكاناتها دون تقصير ٍ ؛ أقول من المفارقات المحزنة أنه في ذات الوقت أصبحنا نرى مرفق القضاء لدينا يعج ّ بممارسات لم تكن مألوفة لنا في السابق حيث عشنا دهراً طويلاً تحظى فيه المؤسسة القضائية بالكثير من الهيبة ومزيد من الوقار ، ولم تكن يوماً أو أحد من منسوبيها طرفاً في مهاترةٍ صحفية أو ابتذال إعلامي ، أو محتاجة لقلم هذا، أو صوت ذاك ليدافع عنها أو حتى لينتقدها ويوجه تصرفاتها .

ووالله إنه أحزنني وآلمني غاية الألم ما تَتابع في الأيام الماضية من وقائع لا تبشر بخير لم نكن نألفها في قضائنا الوقور المهاب في السابق سواء منها ما أشرت ُ إليه في مقالي " هيبة القضاء في خطر " أو ما استجد بعدها من النشر غير الموفق لأخبار لائحة الشؤون الوظيفية للقضاة ، أو ما تلاه من خروج بعض القضاة عن عباءة الوقار وتنكرهم لما يمليه واجب منصب القضاء على القاضي من أن يكون من أبعد الناس عن مواطن الابتذال أو الشبهة وأحرصهم على التمسك بالمنهج الشرعي خاصة لقضاة هذه الدولة المباركة التي يقوم قضاؤها على تحكيم الشريعة الإسلامية مما يضفي عليه مزيداً من التوقير والاحترام ، حيث ظهر علينا بالأمس ما تضمنه الموقع الإلكتروني المشبوه " قاضي نت " من أفكار لا تبشر بخيرٍ أن يحملها أو يعتقدها أو يتسامح في إطلاقها من أولته الدولة كامل الثقة والاحترام عبر اختياره من ولي الأمر – حفظه الله – لشغل منصب القضاء الشريف . ومع التأكيد على أنه لا يجوز بحال تعميم الحكم على أصحاب الفضيلة القضاة الذين لا نشك أبداً أنهم – بإذن الله – من أبعد الناس وأكثرهم استنكاراً لهذه الأفكار ومحاربةً لها إلا أن مجرد حدوث هذا الأمر يعتبر سابقةً خطيرةً غير مألوفة في المؤسسة القضائية السعودية وقد نبّه إلى خطورتها كثيرون منهم الأستاذ تركي السديري في زاويته اليومية .

وكذا ما حصل من مهاترات صحفية أطرافها قضاةٌ لم يأنفوا أن يذيّلوها بأوصافهم القضائية ومناصبهم الشرعية التي كانت تفرض عليهم احترامها والترفع عن الزج بها في مثل تلك المهاترات مما جعلني أقف طويلاً في حال من الدهشة والحزن على ما آل إليه قضاؤنا في عصره الذي يفترض فيه أن يكون عصراً ذهبياً ، وكيف لا أحزن وأنا ابن الجسد القضائي ميلاداً ونشأة ، وابن هذا الوطن شفقة ومحبة، وابن هذه العقيدة السمحة التي تشرف قضاؤنا بتطبيق أحكامها وأجاد وأبدع .

وفي ذات السياق يأتي ما أصدره المجلس الأعلى للقضاء من بيان حول أحداث محكمة المدينة الذي أنكر فيه المجلس وجود أي اتهامٍ لأحد من قضاة المدينة ونفى المجلس صحة ما نشر في إحدى الصحف المحلية من أن بعض المحامين قد تقدموا للمجلس بمعلومات عن تجاوزات في المحكمة العامة في المدينة المنورة، مؤكدا أنه لم يتلق أي بلاغ بهذا الشأن، وهو ما انتقده كثيرون على المجلس ، وبعده تنشر جريدة الرياض تصريحاً منسوباً لرئيس لجنة المحامين في المدينة تولى فيه تفسير المقصود ببيان المجلس في سابقة غير مقبولة إذ كان المفترض أن يصدر هذا التفسير عن مصدر مسؤول في المجلس لا عن محامٍ ، كما تضمن تصريحه متابعة للمجلس في نفي أنه تلقى أي شكاوى من المحامين في المدينة بحق أحد قضاتها ، وقد أصابتني الدهشة من جديد حول بيان المجلس وتفسيره على لسان المحامي لأنهما يناقضان ما سبق أن نُشر وبالصور عن استقبال رئيس مجلس القضاء لرئيس وأعضاء لجنة المحامين في المدينة الذين قدموا له تظلماً حول تجاوزات يرتكبها بعض قضاة المحكمة فأصدر معاليه تعميماً على إثر هذا التظلم ( جريدة الرياض عدد15259 وتاريخ 19/4/1431ه) !!. فما الداعي لهذا التناقض والتكذيب غير المبرر ، وما الإشكال في توضيح الحقيقة على وجهها كما يعلمها الجميع فالقضاء له نزاهته وهيبته إلا أن أفراد القضاة ليسوا معصومين عن الغلط .

وخلاصة القول : إن هيبة القضاء مسؤولية السلطة القضائية بالدرجة الأولى ، وإن خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – حين قال كلمته المشهورة :" سأضرب بسيف العدل هامة الظلم والجور " فإنه لا يقبل من مرفق القضاء إلا أن يكون قضاءً مهاب الجانب محفوظ الكرامة مصوناً عن كل ما يشينه لأنه كما قال سماحة شيخنا الشيخ صالح الحصين :" القضاء هو عرض ُ الدولة " . وحق ُّ العرض ِ الصيانة، وسمعة القضاء في مقدمة المصالح الوطنية المهمة، وبالتالي فهو في منتهى الحساسية، ولا يقبل (بأي حال من الأحوال) المخاطرة به تحت أي ظرف أو تأويل، فضلاً عن المصالح الخاصة والبريق الإعلامي وجلب الأضواء والمزايدات التي يترفع عنها رجالات الدولة قبل غيرهم..

وأختم هذا القول بما ذكره حول نفس الموضوع الأخ حمود أبو طالب في جريدة عكاظ بتاريخ 23/10/1431ه ، حيث قال (النفي والدفوعات السريعة قد نستوعبها من أي جهاز آخر، لكن عندما تأتي من المجلس الأعلى للقضاء فإن المسألة تختلف).

وأكرر بأن هذه الأمور تتسع شيئاً فشيئاً ويوماً فيوماً، وفي هذا بكل تأكيد أبعاد مسيئة ونتائجها غير محمودة العواقب، خاصة وأن ميزة قضاء المملكة تكمن في تحكيم الشريعة الإسلامية وهذه خاصية ليست لغيرنا، وتزيد من حرقتنا على وجوب رعاية سمعته، ولابد من المحافظة على بقاء سمعتنا القضائية على ما كانت عليه من نقاء وصفاء لا يشوبه أي مكدر، فالقضاء عرض الدولة، وقد أعطته وفقها الله من دعمها المادي والمعنوي بما لا يضاهيه عطاء فيما أحسب، وأهم من هذا عيَّنت قضاة يقومون بشؤونه هم خلاصة وصفوة مجتمعنا الشرعي، ولا سيما سمة النزاهة التي توجَّت سيرتهم ولا تزال، وأكدت عليها أحكامهم العادلة ولا تزال كذلك، وتعتبر هذه الخصلة المتجذرة هي عزاءنا الحقيقي فيما حصل، وهي في واقع الحال أهم مزية في قضاتنا، الذين برهنوا أنهم بكل جدارة أهل للمسؤولية الشرعية والثقة الكبيرة المناطة بهم.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وهو رب العرش الكريم..

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني