قراءة دستورية في رئاسة القضاء
قبل الحديث عن أهمية المرحلة الحالية لتطوير القضاء وما يعيشه من وضع استثنائي وظرف حساس، ومعاناة متكررة من محاولة البعض عرقلة مسيرة هذا التطوير سواء عن علم أو جهل لا بد أن أشير إلى أهمية القرار الحكيم والظرف الملح بإسناد رئاسة المجلس الأعلى للقضاء إلى قيادة واحدة مع قيادة المرفق العدلي .
لقد استطلعت حول هذا الموضوع في فضاءات التواصل الاجتماعي وقلت وقتها آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه، خاصة وأن الطرح في هذا الموضوع لا يتطلب مجرد قانوني بل يتطلب فقيهاً دستورياً.
بحسب نظام القضاء الأخير فإن الأصل في رئيس المجلس الأعلى للقضاء هو التكليف لا التعيين وهذا ما توجهت إليه اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري في مشروعها المتعلق بالترتيبات التنظيمية لأجهزة القضاء وفض المنازعات وتمت ترجمة ذلك في نظام القضاء الأخير
بقراءة دستورية لهذا القرار إضافة لمناقشتي المستفيضة مع ثلاثة فقهاء دستوريين في هذا الموضوع أستطيع تلخيصه في الآتي:
أولاً: لم يكن هذا القرار الحالة الفريدة من نوعها لسببين أولهما: أن كافة وزراء العدل السابقين سبق تكليفهم بمثل هذا القرار تماماً ما عدا سلف الوزير الحالي، وثانيهما: كون ديوان المظالم تجتمع فيه نفس الحالة تماماً فرئيس الديوان بحسب نظام القضاء له قبعتان قبعة وزير العدل وقبعة رئيس مجلس القضاء، وسؤالي: هل القضاء الإداري وهو لا يقل البتة عن القضاء العام أهمية وخطورة يهون على البعض بحيث لا يناقشون هذا الأمر فيه، ويعتبرون الأمر في ديوان المظالم سائغاً دون سواه ؟.
ثانياً: لهذا الإجراء نظائر لدى عدد من الدول مع اختلاف في الصياغة من دولة لأخرى؛ ففي بعض الدول التي فيها مجالس قضائية نجد أن وزير العدل يرأس مجلسها القضائي ، منها ما هو بقوة القانون كما في الإمارات العربية المتحدة، ومنها ما هو بالنيابة عن رئيس الدولة كما في عمان واليمن كما أخذت به المغرب، وفي بعض الدول التي ليس فيها مجالس قضائية كما في الولايات المتحدة الأمريكية يقوم رأس السلطة التنفيذية بترشيح القضاة الفدراليين ويصادق عليه الكونجرس أو يرفضه، مثلما يقوم المجلس الأعلى للقضاء لدينا بترشيح القضاة ويصادق على الترشيح الملك أو يرفضه، ولا شك أن تعيين القضاة من أخطر ضمانات الاستقلال القضائي، مثلما تمثل خطورة إنهاء خدماتهم التي يباشرها الكونجرس وهو سلطة تشريعية وليس سلطة قضائية، والكثير من المناقشين في هذا يفوتهم هذا الأمر، وهو يكشف قصور الاستقراء العلمي في جوانب دستورية مهمة، وقد قيل: لو سكت من لا يعلم لاستراح الناس، فهذه النماذج يلزم منها على تلك التصورات المتسرعة التداخل الصارخ بين السلطات، لكن مُصَدِّري هذه النظريات إلينا ولغيرنا يُدْهشوننا بتطبيقاتهم لها، ومشكلة بعضنا أنه يقرأ النظرية ولا يستطلع تطبيقها من قبل دولة المنشأ !! .
وفي الجانب الآخر نجد وزارة العدل الفرنسية تستأثر برئاسة التفتيش القضائي، ولها سلطة واسعة على المحاكم، حتى أصبح وزير العدل وحامل الأختام فيها رئيساً لبعض المحاكم ذات الطابع الإجرائي المتعلق بالاختصاص وفي عضوية هذه المحاكم سدة طرفي القضاء في فرنسا العام والإداري، والأدهش من هذا أن مرجعية مجلس الدولة الفرنسي وهو القضاء الإداري إلى رئيس السلطة التنفيذية.
ثالثاً: من المدهش أيضاً للكثير من الأطروحات في هذا الموضوع أن وزارة العدل في المملكة لها مقعد في المجلس الأعلى للقضاء بنفس صوت رئيس المجلس تماماً وذلك عن طريق وكيل وزارتها منذ صدر نظام القضاء السابق عام 1395ه وحتى النظام الجديد عام 1328ه، وليس هناك فرق في مسائل الفصل بين السلطات ما دام دخلت الوزارة بهذه العضوية والتي قد تكون مؤثرة جداً في الترجيح بين الآراء ومن ثم في توجه قرار المجلس، علاوة على عضوية هيئة التحقيق والادعاء العام في المجلس وهي في إطار تكييف نظامها الحالي لا يُشك أبداً في أنها جهة تنفيذية.
رابعاً: وزارات العدل في العالم إما أن تكون مسؤولة عن ملفات أمنية، وعن التحقيق في الدعاوى وتحريكها أمام القضاء، بوصفها سمات تتعلق بالعدالة، وإما أن تكون مسؤولة عن الشؤون القضائية في إدارة القضاء دون التدخل في شؤونه، وهذا كما قلنا يمثل نموذج عدد من الدول، وإما أن تكون منحصرة في شؤون الشهر العقاري وعندئذ لا مسوغ لتسميتها وزارة عدل، والأولى أن تكون شؤون الشهر العقاري لهيئة خاصة ذات شخصية معنوية عامة، ترتبط إشرافاً بالشؤون البلدية، والخيار الأخير هو إلغاء الوزارة والبقاء خارج العالم في شغور مقعد العدالة في الحكومة، وقد حصل هذا في بريطانيا لكن تم إنشاء وزارة عدل بريطانية عام 2007م، كل هذا يدل على أن النظرية كثيراً ما تتلاشى أمام محك التطبيق.
خامساً: بحسب نظام القضاء الأخير فإن الأصل في رئيس المجلس الأعلى للقضاء هو التكليف لا التعيين وهذا ما توجهت إليه اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري في مشروعها المتعلق بالترتيبات التنظيمية لأجهزة القضاء وفض المنازعات وتمت ترجمة ذلك في نظام القضاء الأخير، وشاهد هذا هو التعبير عن رئاسة المجلس بالتسمية لا التعيين، وعدم تعيين مرتبة له في الميزانية، بخلاف النظام الأول، وبهذا نعلم أن النظام الجديد توجه نحو كون رئيس المجلس غير متفرغ مثلما سبق أن أشرنا إليه في نماذج بعض الدول.
ولكون من يتحدث في هذا الأمر منقطع الصلة تماماً عن هذه التفاصيل نظراً لعدم اختصاصه فإنه لم يقدم أطروحته بعد صدور النظام الذي عبر عن هذه السياسة القضائية الجديدة وإنما بعد التطبيق الفعلي لها مؤخراً.
أما الحالة السابقة والتي استمرت ثلاث سنوات فهي تمثل حالة استثنائية من النظام، كما عبرت عنه مداخلات البعض، لأن النظام واضح في عدم التعيين على هذه الوظيفة وعدم تسمية مرتبة لها في الميزانية، وكافة القانونيين ذوي الصلة في اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري على علم تام بهذا الإيضاح، الذي يترجم القرار الدستوري والقانوني والمصلحي لمرفق العدلة في قرار خادم الحرمين الشريفين الأخير.
سادساً: قرأنا العديد من الكتابات العربية والأجنبية في سلطات الدولة في نطاق نظرياتها الدستورية أو التي تتحدث عن مباحث القانون الإداري، ووجدنا أن الفصل بين السلطات ينصب على أمر واحد لو علمه أصحاب التصورات العامة من غير المختصين لأراحوا أنفسهم وهو عدم التدخل في عمل كل سلطة وليس عدم التعاون والتعاطي والإسناد الإيجابي بين السلطات، وفي مقامنا فإن سلطة القضاء عملها الأحكام القضائية وهذه مستقلة ومنفصلة تماماً عن سلطة إدارة القضاء المتمثلة في وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء نظراً لكون المجالس القضائية في تكييف الدستوريين تمثل في حقيقة الأمر صحة وصواب ما نُشر عنه مؤخراً من أن هيئة الخبراء كيَّفت المجلس الأعلى للقضاء على أنه هيئة إدارية وليس سلطة قضائية.
وفي مناسبة الموضوع أذكر عندما كنت في السلك القضائي في ديوان المظالم وجاء المندوب الأممي عن الشؤون الحقوقية والاجتماعية وزار الديوان في جملة من زار قدم توصيات تتعلق بعمل السلطات وتم الطرح عليه بأن بعضها يخالف التطبيق العملي له في دول كبرى عندئذ عبَّر عن مجرد رأيه وتوصياته التي دونها وألمح فيما فُهم منه دون أن يُصرح بأن هناك مشاريع توصيات تطالب دولاًً كبرى بتعديلات دستورية وقانونية وعندئذ قلنا هان الأمر، والإشكالية تكون في النموذج عندما يستولي على الرأي فإنه لا ينفك عن نظريته فمن يرى أن وزارة العدل يفترض أن تكون أمنية كما طالب به هذا الأممي فإنه يطرح توصيته التي تُشعر بذلك، وهو بالتالي لا يوافق مطلقاً على التوجه الفرنسي بكون التفتيش القضائي لدى وزارة العدل، بل وينتقده، وكذلك في كون السلطة التنفيذية في أمريكا هي التي ترشح القضاة الفدراليين، وقلنا في أنفسنا جميع ما تذكر رهن بإصلاح بلدان المنشأ من تطبيقاتها.
يبقى أن نظرية الفصل بين السلطات تقوم أساساً على أنظمة حكم تخالف المفهوم الإسلامي لولاية الأمر، فهي تقوم على وجود ثلاث ولايات أمر لا واحدة، وكل ولاية منفصلة عن الأخرى تماماً بمعنى لا يوجد ولي أمر ومرجع واحد للجميع كما في نظام الحكم الإسلامي، فإذا صار ذلك ففي نظرياتهم لا قيمة للفصل بين السلطات ما دام هناك مرجعية واحدة هي صاحبة القرار، لكن هذه النظريات إزاء استحالة هذا التطبيق (لأنه يمثل في الواقع ثلاث دول داخل الدولة) اضطرت للتكامل والتعاون فيما بينها على ضوء ما أشرنا إليه دون أن تتدخل كل واحدة في عمل الأخرى، ولذلك يستحيل في أي فلسفة دستورية أن يُكلف وزير العدل رئيساً للمحكمة العليا، لأن هذا هو مناط ومتعلق استقلال السلطة القضائية فالقضاء مستقل في أحكامه ، ويستحيل أن تتدخل السلطة القضائية أو التنفيذية في قرارات سلطة البرلمان، وهذا لا نقاش فيه.
وختاماً أسأل الله أن يوفق ولي أمرنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه .