جدوى التظلمات الإدارية
تعتبر التظلمات الإدارية والقضائية من أهم الوسائل التي يلجأ إليها أصحاب الحقوق للمطالبة بحقوقهم، أو التظلم من الأخطاء والأضرار الواقعة عليهم، سواء كان مصدر هذه الأضرار أخطاء صدرت عن أشخاص عاديين فيما بينهم، أو كان مصدرها أخطاء صادرة عن إحدى جهات الإدارة تجاه أحد منسوبيها أو المتعاملين معها.
والمضرور أو المظلوم حين يلجأ إلى التظلم لدى الجهة المختصة، فإنه دوماً يبدأ متدرجاً في تظلمه، فيبدأ من الإدارة الدنيا ثم حين لا يجدي تظلمه يتوجه إلى الإدارة الأعلى منها والمسؤولية عنها.
وحين يكون التظلم من تصرفات وإجراءات جهة الإدارة، فإن مجرد كون الإجراء الصادر عن الإدارة كان خطأً أو مخالفاً لنظام ما، لا يعني أن يكون هذا الخطأ صادراً عن سوء نية وتعمّد الخطأ والمخالفة، بل إن الأخطاء في أعمال وقرارات جهة الإدارة اليومية تبقى أمراً غير مستغرب في ظل الظروف المحيطة بالعملية الإدارية -وذلك في حدود معينة إذا تجاوزتها قد تصبح خللاً غير مقبول-.
إن بعض الأخطاء التي ترتكبها بعض جهات الإدارة يبدأ بطريقة عفوية غير مقصودة، ثم يتحول إلى مسألة عناد وموقف شخصي لذلك الموظف أو المسؤول الذي أصدر القرار، حتى يرى أن رجوعه عن قراره يحطّ من قدره أو يضعف هيبته!
وما دام الخطأ الصادر عن جهة الإدارة ليس بالضرورة أن يكون مصحوباً بالتعمد وسوء النية؛ فإن من الوارد جداً أن تتراجع الإدارة عن هذا الخطأ بناء على التظلم المقدم إليها من صاحب الشأن وهو الطرف المضرور.
ولهذا فقد أوجب نظام القضاء الإداري على المتظلم أمام القضاء من القرارات الإدارية، أن يبدأ بالتظلم الإداري لدى الجهة مصدرة القرار قبل اللجوء للقضاء. ومن الضروري والمفيد جداً أن تولي جهة الإدارة هذه التظلمات المقدمة إليها عناية خاصة في بحثها والتحقق منها، واتخاذها مصدراً من مصادر تقويم الأخطاء وإصلاح الخلل داخل الإدارة.
ومن أبرز وسائل تحقيق هذه الغاية أن يكون لدى كل إدارة تنظيم داخلي يكفل التعامل مع هذه الشكاوى والتظلمات بمهنية عالية، وأمانة وتجرد، وعلى يد أكفاء من المختصين في القانون.
ودوماً ما يتبادر إلى ذهني -كمتخصص- سؤال كبير هو: هل لدينا أي وسائل أو معايير قياس أو إحصاء يمكن من خلالها أن نقيس مستوى تعامل إداراتنا الحكومية مع التظلمات والشكاوى المقدمة إليها من ذوي الشأن؟ ومدى إيجابية هذه الإدارات في التعامل الفعّال والجاد مع هذه التظلمات بما يعطي قناعة بالرغبة الجادة والحرص لدى الإدارة على تصحيح أخطائها وحسن قيامها بواجبها؟ والفوارق بين إدارة وأخرى ليتبين لنا مستويات هذه الإدارات، المتقدم منها والمتأخر، في هذا الجانب؟
والجواب المؤسف أنه لا يوجد لدينا أي وسيلة قياس يمكن من خلالها الكشف عن واقع تعامل الجهات الحكومية مع التظلمات والشكاوى المقدمة إليها.
ولو أن الجهات الحكومية كانت مهتمة بالفعل بهذا الجانب، واتخذت من الإجراءات ما يمكنها من التعامل بإيجابية مع هذه الشكاوى والتظلمات، لكان ذلك خير عون في التخفيف عن القضاء الإداري من العبء الثقيل الذي ينوء به في مواجهة كم هائل من الدعاوى القضائية.
إن بعض الأخطاء التي ترتكبها بعض جهات الإدارة يبدأ بطريقة عفوية غير مقصودة، ثم يتحول إلى مسألة عناد وموقف شخصي لذلك الموظف أو المسؤول الذي أصدر القرار، حتى يرى أن رجوعه عن قراره يحطّ من قدره أو يضعف هيبته!
ثم يتزايد الأمر سوءاً حين يطلع مسؤول أو موظف أعلى في نفس الجهة على خطأ زميله، ولا يملك الشجاعة لإيقافه مع كونه يملك الصلاحية، حتى صار يحدث داخل بعض الجهات الحكومية (فزعة شخصية) و(مجاملات بين الموظفين) في التغطية على أخطاء بعضهم، دون أن يحسبوا حساباً لمدى الضرر أو الظلم الواقع على الطرف المضرور، ويضطرونه للجوء إلى جهة أعلى أو إلى القضاء للتظلم من الخطأ الذي وقع عليه.
وفي حالات واقعية اطلعت على بعضها، يصبح ذلك الخطأ مثل كرة الثلج التي تتدحرج فتكبر شيئاً فشيئاً، وتنتقل الإدارة إلى الدفاع عن خطأ موظفها أمام ساحات القضاء، وترتكب في سبيل ذلك أخطاء أكثر فداحة، قد تخرج بالخطأ الأول عن كونه خطأً فردياً غير مقصود، إلى خطأ عمدي تتبناه إدارة كاملة، لم تجد من مسؤوليها من يجرؤ على وقف هذا الخطأ، رغم كونه في كثير من الحالات واضح المخالفة للنظام.
وهكذا يبدأ ممثل جهة الإدارة في إخفاء المستندات، وتقديم الإفادات المخالفة للحقيقة، والتنكر للوقائع الثابتة. وهنا نكون أمام أحد احتمالين؛ إما أن يتمكن القضاء من كشف الحقيقة، ويكون المتظلم مطلعاً على بعض المستندات أو المكاتبات أو المعلومات التي تكشف حقه، وإما أن تكون الحقيقة غامضة، والمتظلم لا يعلم الكثير مما يتعلق بحقه داخل أروقة جهة الإدارة، فيضيع الحق وينتقل من محكمة الدنيا إلى محكمة الآخرة، وكفى بها محكمة جلّ وتعالى قاضيها سبحانه.
والحمد لله أولاً وآخراً.