تنظيم الخبرة في المحاكم ألم يحن وقته ؟

من أكثر المواضيع حيوية وأهمية، وتأثيراً كبيراً على سلامة الأحكام وحسن سير العدالة؛ موضوع (الخبرة الفنية) التي تعتبر وسيلة ً أساسية ً لا يستغني عنها القضاء للفصل في الخصومات ذات الطابع الفني الذي لا يختص به القاضي.

مما يؤسف له أني وقفت أثناء بحثي في رسالة الدكتوراه على لائحة ٍ للخبرة سبق لوزارة العدل قبل سنوات أن أعدتها، إلا أنها ما تزال حبيسة الأدراج لم تصدر بعد، ولا أعلم السبب وراء ذلك رغم الحاجة الماسة إلى سرعة صدورها.

وتتفق جميع قوانين ونظم المرافعات في العالم على الاهتمام والعناية الكبيرة بتنظيم أحكام الخبرة القضائية التي يستعين بها القضاء، حتى إن بعض الدول تصدر قانوناً خاصاً بأحكام الخبرة القضائية، ولا تكتفي بتنظيمها ضمن قانون المرافعات، لأهميتها القصوى.

وفي نظام المرافعات الشرعية في المملكة تناول تنظيم أحكام الخبرة في الفصل السادس منه، من خلال إحدى عشرة مادة، استعرضت أبرز أحكام الخبرة، ولم تشمل كافة تفاصيل أحكامها، بل أحالت المادة (128) الفقرتين (2 و 4 ) على اللوائح التنفيذية لهذا النظام وأناطت بها بيان باقي تفاصيل أحكام الخبرة.

أما في نظام المرافعات أمام ديوان المظالم، فقد اكتفى بنص المادة (20) منه التي قررت أن " يصدر مجلس القضاء الإداري القواعد الخاصة بالاستعانة بالخبراء، وتحديد أتعابهم ".

وقبل مدة أصدر مجلس القضاء الإداري تلك القواعد في (41) مادة نظامية، بينما ما زالت وزارة العدل لم تصدر إلى الآن أي لائحة ٍ لتنظيم أعمال الخبرة في المحاكم، وفق ما قضى نظام المرافعات الشرعية، ولم يتم تفعيل إدارة الخبرة في وزارة العدل، كما لا تزال أقسام الخبراء في المحاكم تعاني نفس الإشكالات السابقة على صدور نظام المرافعات الشرعية، وبالتالي فإن إجراءات الخبرة في المحاكم ما تزال تشهد فراغاً تنظيمياً، وخللاً تطبيقياً، وهو ما يؤثر بشكل سلبي كبير على جودة وسلامة الأحكام القضائية التي تعتمد على الخبرة.

وإن مما يزيد الأمر تعقيداً والحاجة إلحاحاً، كثرة تنوع النزاعات القضائية وتشعّب مواضيعها، واتصافها بالجِدّة والتطور وما يواكب ذلك أيضاً من كثرة فروع ومجالات الخبرة الفنية، ودقة التخصصات وتنوعها، وتطور العلوم المرتبطة بها، مما يستوجب أن ترتقي إدارات الخبرة في وزارة العدل والمحاكم لمواكبة هذا التطور والتنوع، والإفادة منه في تحقيق العدالة ورفد القضاء بما يحتاجه من نتاج هذه العلوم وخيرة المتخصصين فيها.

وإن مما يؤسف له أني وقفت أثناء بحثي في رسالة الدكتوراه على لائحة ٍ للخبرة سبق لوزارة العدل قبل سنوات أن أعدتها، إلا أنها ما تزال حبيسة الأدراج لم تصدر بعد، ولا أعلم السبب وراء ذلك رغم الحاجة الماسة إلى سرعة صدورها.

وعلى خلاف العادة في مسيرة القضاء فقد سبق القضاء الإداري القضاء العام في إصدار هذه اللائحة، ليخالف بذلك ما كان معتاداً أن يأتي إصدار القضاء العام لمثل هذه اللوائح أولاً، ولتقوم الحجة على وزارة العدل لتسارع إلى إصدار هذه اللائحة، التي رغم أهميتها القصوى إلا أنها لا تنطوي على صعوبات كبيرة ليمكن إصدارها، فتجارب الدول حولنا كثيرة وقديمة جداً، وقوانين الخبرة مما تزخر بها الدول العربية وغير العربية، وليس شاقاً جداً الاسترشاد بتلك التجارب، والبدء من حيث انتهى الآخرون.

وفي ظل عدم صدور هذه اللائحة، وبقاء أقسام الخبراء في المحاكم على وضعها الحالي، فإن الباب سيبقى مفتوحاً لمزيد من الاجتهادات الفردية، واللجوء للخبرة بشكل ارتجالي ينقصه الكثير من معايير ضبط الأداء، ويفتقر للمرجعية الرقابية التي تكفل الإفادة القصوى من هذه الوسيلة الفنية الفعالة، وتلافي ثغرات التلاعب أو المصداقية أو الكفاءة في تقارير الخبرة وأعمالها.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني