زكاة القرض بين وحدة المال واستقلال الذمة
مناقشة لإجراءات الربط الزكوي عن القروض.
من المعلوم أن النظام الذي تسير عليه مصلحة الزكاة والدخل في جباية الزكاة على المكلفين نظام قديم صادر عام 1376ه وليس فيه من أحكام تفصيلية سوى أنه " تستوفى الزكاة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية ". وتعتمد مصلحة الزكاة في سائر إجراءات تحصيل الزكاة بنظام الضريبة الصادر عام 1425ه.
وقد نص نظام ضريبة الدخل على آلية الاعتراض على قرارات الربط الضريبي، وإنشاء لجان ابتدائية واستئنافية تتولى النظر في هذه الاعتراضات وذلك في المادة السابعة والستين من النظام. كما نصت المادة (62) فقرة (7) من اللائحة التنفيذية لهذا النظام على أنه يكون قرار اللجنة نهائياً وملزماً للطرفين ما لم يتم التظلم منه أمام ديوان المظالم. وهو ما نص عليه نظام ديوان المظالم أيضاً في المادة (13) فقرة (ب) التي جعلت من اختصاصات الديوان النظر في دعاوى إلغاء القرارات التي تصدرها اللجان شبه القضائية.
وفي الحقيقة فإن اختصاص ديوان المظالم بالنظر في الاعتراضات على هذه القرارات جاء ليضفي درجة عالية، ووسيلة فاعلة، للرقابة على مثل هذه القرارات.
وقد آتت هذه الوسيلة الرقابية الضمانية أكلها، وأظهرت مدى قيمتها في تحقيق العدل وضمان حسن تطبيق النصوص النظامية وفق التفسير الأصح والأعدل لها، وقد ظهر ذلك من خلال العديد من الأحكام والمبادئ القضائية التي أرساها القضاء الإداري فيما يخص الطعن على قرارات اللجنة الاستئنافية للمنازعات الزكوية والضريبية.
إلا أن هناك بعض الأحكام القضائية التي تصدر في هذا النوع من القضايا، قد أخذت بتوجهات واجتهادات قضائية محل نظر، وأعتقد أن من المصلحة الشرعية والاقتصادية أن يعاد النظر فيها، لتلافي ما قد يترتب عليها من سلبيات، وتصحيح ما قد يكون شابها من خطأ في الاجتهاد.
ولعل أبرز هذه الاجتهادات ما صدر في عدة أحكام عن ديوان المظالم بتأييد قرارات اللجنة الاستئنافية للمنازعات الزكوية والضريبية، التي قررت فيها اللجنة احتساب الزكاة على القروض التي تظهر في حسابات المكلفين من الشركات، على كل من المقرض والمقترض معاً، محتجة في ذلك بأن كلاً منهما له شخصية معنوية وذمة مالية مستقلة، وأنه بالنسبة للمقرض فإن عرض القرض كرصيد في القوائم المالية له، يعني أن هذا القرض يمثّل ديناً على مليء، ما لم يظهر في قائمة الدخل ما يثبت إعدام هذا القرض؛ وبالتالي تجب فيه الزكاة باعتباره ديناً محتمل الأداء.
وبالنسبة للمقترض فإن عرض القرض في قائمة المركز المالي للمقترض يعني أن هذا القرض يمثّل أحد مصادر التمويل الأخرى، شأنه شأن رأس المال، وبالتالي يلزم إضافته للوعاء الزكوي، حتى ولو كان المقرض طرفاً ذا علاقة للمقترض.
وقد صدر الحكم القضائي من ديوان المظالم بتأييد ما قررته اللجنة الاستئنافية في هذا الاجتهاد، لنفس الأسباب التي أسست عليها اللجنة الاستئنافية أحكامها، وعملاً بفتوى صادرة عن سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ - حفظه الله - يقول فيها : " إن أدلة وجوب الزكاة عامة تشمل جميع الأموال الزكوية، ولم يرد دليل صحيح بحسم الديون من ذلك، ولا يترتب عليه وجوب الزكاة مرتين في مال واحد، لأن الدائن يزكي الذي يملكه وهو في ذمة المدين، بينما المدين يزكي مالاً آخر يملكه ويوجد بيده ويتمكن من التصرف فيه، وفرقٌ بين المال الذي بيد الإنسان، والمال الذي في ذمته " .
واللافت للنظر في هذا الحكم القضائي أنه لم يأخذ بالكثير من الفتاوى الفقهية التي تعتبر هي الممثلة لرأي جماهير الفقهاء، والأغلبية منهم، الذين يفتون بأنه لا يجوز تحصيل الزكاة عن القرض من المقرض والمقترض، وأن الصحيح هو وجوب زكاة القرض على المقرض دون المقترض، وأن تحصيلها منهما جميعاً يدخل في " الثني في الصدقة " الذي ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه . ومع ذلك فقد أهدر الحكم القضائي كل هذه الفتاوى، وقرر الأخذ بفتوى واحدة ً صادرة عن سماحة مفتي عام المملكة منفرداً لا عن هيئة كبار العلماء، ولا عن اللجنة الدائمة للإفتاء، معللاً الحكم القضائي أخذه بهذه الفتوى بأنها " تعدّ آخر ما صدر بشأن زكاة الدين" ! ولا أدري ما القيمة الفقهية لهذا المعيار الجديد في الترجيح بين أقوال وفتاوى العلماء، " الأخذ بآخر الفتاوى صدوراً "!
إذ لا عبرة في باب الترجيح الفقهي بأواخر الفتاوى وأولها، بل العبرة بما قوي دليله الشرعي، وظهر مدى موافقته لأصول الشريعة وقواعدها ومبادئها، مع أن المستقر أن الفتوى - وإن كانت رسمية - غير ملزمة للقضاء.
ولئن كانت فتوى سماحة مفتي المملكة ترى هذا القول، وهو محل تقدير واجتهاد لا شك في ذلك؛ فإنه قد خالفها - والخلاف بين العلماء وارد - الكثير جداً من فقهاء السلف والخلف، ومن العلماء الكبار في المملكة مثل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة سابقاً وسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي المملكة السابق وسماحة الشيخ محمد بن عثيمين رحمهم الله وهي أيضاً المفتى به في كثير من الهيئات والمجامع الشرعية ومراجع الفتوى في الكثير من البلدان الإسلامية. أنه لا تجب الزكاة في القرض على المقرض والمقترض جميعاً.
ومع قوة وظهور رجحان الفتوى القائلة بعدم وجوب الزكاة في القرض على المقرض والمقترض جميعاً، وغرابة وضعف الفتوى الموجبة للزكاة عليهما معاً ؛ إلا أن هذه المسألة يجب أن ينظر إليها من كافة جوانبها الأخرى، وتقدير ما يترتب على إيجاب الزكاة في المال الواحد والحول الواحد مرتين، من مفاسد شرعية، وأضرار اقتصادية، ولعل أبرزها ما يلي :
أولاً : أن هذا الحكم متعلق بشعيرة وعبادة من شعائر الدين وأركانه، والمعول فيها على أحكام الشريعة الإسلامية، فلا ينبغي حمل الناس فيها على القول المرجوح الضعيف، وإجبارهم على الأخذ به وعدم منحهم حق التعبد لله عز وجل بالقول الراجح القوي، فقد يؤدي ذلك إلى تسرب شعور الاستثقال والامتعاض من أداء الزكاة، ومحاولتهم التهرب منها بشتى الحيل، ونكون بذلك قد فتحنا باباً للإثم عظيما.
ثانياً : أنه في ذات الوقت أصبح من أهم وسائل دعم الدول لاقتصاداتها، وتشجيع الاستثمار فيها، السعي إلى إبرام الاتفاقيات فيما بينها وبين الدول الأخرى لمنع الازدواج الضريبي، وذلك في الضرائب، فكيف يأتي تطبيق مصلحة الزكاة بفرض الازدواج الزكوي في الزكاة الشرعية على المكلفين، وهو المصرّح بتحريمه في الشريعة، ويقرها على ذلك أحكام القضاء! .
وإني أطرح هذه القضية وكلي أملٌ أن يتصدى لإعادة النظر فيها وتأملها وتصحيح ما يشوبها من خلل في تسبيب الحكم القضائي، أصحاب الفضيلة قضاة القضاء الإداري بما منحهم الله من بصيرة وفقه وسعة أفق، مستحضرين أبعادها الشرعية، وآثارها الاقتصادية .
والحمد لله أولاً وآخرا..