كثافة وتدفق القضايا في المحاكم
2015/11/07
مقال اسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض
يظهر للمتخصص والمتابع للشأن القضائي هذه الأيام أن من أكثر المسائل التي تشغل بال القيادات القضائية، كثرة وكثافة تدفق القضايا على المحاكم، وهذا ما جعل وزارة العدل مؤخراً تشكل لجنة لدراسة ووضع الحلول المناسبة لهذه المشكلة، وقد بدأت هذه اللجنة أعمالها وفعالياتها المتنوعة، وطلبت من المعنيين تزويدها بما لديهم من ملاحظات ومقترحات.
ولعلي هنا أتناول مسألة من أعقد المسائل التي أجزم أن لها دوراً ظاهراً في إشغال المحاكم بالدعاوى، وهي دعاوى غير عادية بل معقدة شائكة، تستغرق من القضاة الوقت والجهد الطويل لنظرها، في حين أنه كان بالإمكان تلافيها ومعالجتها بطريقة واضحة صارمة، تشهد لها الشريعة وتؤيدها، وقد سبق لي تناولها في عدة مقالات، إلا أني لا أرى أي تحرك جدي لدراستها أو وضع معالجة لها.
هذه المشكلة تدور حول إشغال القضاء والمحاكم بالدعاوى التي يهدف المدعي منها إلى الحكم له بما يخالف الحقوق الثابتة الموثقة المكتوبة، دون أن يكون معه أي دليل يرقى لدرجة إثبات ما يدعيه.
فلو اطلعنا على النزاعات المعروضة على القضاء اليوم لوجدنا نسبة كبيرة منها تدخل ضمن هذه الإشكالية، ما بين من يدعي صورية عقد بيع وقّع عليه ووثقه لدى كاتب العدل، ومن يدعي صورية شراكة شريك سبق أن أقرّ أمام كاتب العدل وكل الجهات المختصة بشراكته معه، وغير ذلك من ادعاءات تهدف لإثبات خلاف الثابت الموثق، والكثير منها يكون بعد عشرات السنين من استقرار الوضع والتصرف الذي يسعى المدعي بالصورية إلى إثبات خلافه.
إن السبب الرئيس وراء هذه المشكلة يكمن في التخلي عما أمر الله عز وجل به في أطول آية في كتابه وهي (آية الدين) في سورة البقرة، التي قال الله عز وجل فيها: «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه..» الآية، فما الذي يمنع أن يُصدر ولي الأمر أمراً صارماً بأن على كل أصحاب الحقوق أن يكتبوا ويوثقوا حقوقهم، وعدم قبول أي ادعاء بحق يخالف الأمر الثابت المكتوب إلا بدليل آخر موثق ومكتوب أيضا، وأنه لا تسمع الدعاوى المرسلة التي تخالف ذلك؟!.
أجزم بأنه لو صدر مثل هذا النظام لقضى على العديد من الدعاوى والخصومات التي أشغلت المحاكم، وزاحمت القضايا الأخرى، وأضاعت الحقوق، وألحقت الضرر بالمتقاضين.
وإذا كان الله عز وجل قد أمرنا بتوثيق وكتابة الحقوق، وهو ما جاء صريحاً في الآية السابقة، وفي آية أخرى مثل قوله تعالى عن أموال اليتامى: «..فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم..».
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله عن هذه الآية: «وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقطع الخصومات، كان الإشهاد واجباً نظير ما تقدم في قوله تعالى (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأن ذلك أقوم لنظام المعاملات».
فإذا كان ذلك هو ما جاءت به الشريعة؛ فلِمَ يستمر إهمال هذه المسألة، وتشجيع الناس على إضاعة الحقوق، والإضرار ببعضهم، وذلك ببقاء كل من أبرم عقداً أو أتمّ تصرفاً مالياً، تحت رحمة الطرف الآخر متى ما شاء جرّه إلى المحاكم بادعاء صورية هذا العقد أو ذلك التصرف، دون أي اعتبار لما جرى من توثيق رسمي لذلك العقد والتصرف لدى الجهات التي أناط بها ولي الأمر توثيق هذه التصرفات؟!
إن إهمال معالجة هذه القضية الشائكة هو أحد أهم الأسباب لإشغال المحاكم وتدفق القضايا والنزاعات، فإن الله ما أمرنا بالتوثيق والكتابة إلا لقفل بابها، فإذا أهملنا ذلك فإنا نختار طريق الخصومات والنزاعات وإضاعة الحقوق.
ولا يقول قائل إن في ذلك اطراحاً لقيمة وسائل الإثبات الأخرى من شهادة الشهود والقرائن؛ فإن أمر الله عز وجل بالكتابة هو الأصل في إثبات الديون، فالشاهد قد يعرض له النسيان والخطأ، وقد يكون شاهد زور يسعى لمصلحة نفسه أو لنفع المشهود له أو الإضرار بالمشهود عليه، لكن الكتابة الموثقة الواضحة لا يتطرق لها شيء من ذلك.
كما أن الكثير من هذه الدعاوى يدور النزاع فيها حول ملكية أموال طائلة وذات قيمة، وقد جرى العرف والعادة أن إثبات ملكية هذه الأموال لا يكون إلا بالكتابة والتوثيق بأعلى درجات التوثيق، لا بمجرد شهادة الشهود وترك الأمور هملا.
وقطع طريق المنازعات، واستقرار العقود والمعاملات، وكل ذلك من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية.
فلعل الله يوفق أصحاب المعالي والفضيلة من قيادات القضاء ورجاله إلى الالتفات لهذه المعضلة وسرعة وضع حدّ لها، واحتساب الأجر من الله فيما يترتب على ذلك من حفظ الحقوق وسدّ باب الخصومات بين المسلمين.
والحمد لله أولاً وآخرا.