من المسؤول عن تنفيذ أحكام القضاء الإداري؟
استقلال القضاء وسيادته وهيبة أحكامه لا تكون إلا بتنفيذ الأحكام القضائية النهائية فور صدورها دون أي تعطيل ولا مماطلة.
وقد كان لصدور نظام قضاء التنفيذ انعكاسه الواضح وأثره الجلي على إعادة هيبة الأحكام القضائية، وحفظ الحقوق ووضع حد للمماطلين المستهترين؛ إلا أنه ما زال لدينا معضلة ٌ تنتظر حلاً مماثلاً، ونوعاً من أحكام القضاء ما زالت تراوح مكانها من التعطيل والتهاون والامتناع غير المبرر ولا المبالي عن تنفيذها؛ وهي الأحكام الصادرة عن ديوان المظالم في القضايا الإدارية، ضد الجهات الحكومية.
بينما كان الواجب المفترض أن تكون الجهات الحكومية هي السباقة ومضرب المثل في احترام أحكام القضاء والانصياع لها، لاتعطيلها وعرقلتها.
ورغم كثرة النصوص النظامية، والأوامر السامية الكريمة، التي تأمر بكل جدية ووضوح بضرورة المبادرة بتنفيذ أحكام القضاء دون أي تعطيل ولامماطلة، ومن ذلك الأمر السامي رقم 9624/ م ب وتاريخ 22/1/1430ه الذي نص في الفقرة الثانية منه على: "توجيه الجهات الحكومية عند تسلمها الأحكام القضائية المذيلة بالصيغة التنفيذية الصادرة ضدها من المحاكم باتخاذ الإجراءات الفورية لتنفيذها والتنسيق مع وزارة المالية والجهات المعنية الأخرى عند الاقتضاء في هذا الشأن"، إلا أنه ما زال هناك العديد من المخالفات الواضحة لهذه الأنظمة والتعليمات وهناك سببان رئيسيان وراء هذه المشكلة هما:
أولاً: عدم وجود آلية نظامية فاعلة، أو جهة مستقلة ذات سلطة، يناط بها تنفيذ الأحكام ضد الجهات الحكومية، أسوة ً بقضاء التنفيذ. بل تبقى هذه المسألة خاضعة ً لسلطة الجهة الحكومية التي صدر الحكم ضدها، فإن شاءت نفّذته وإن شاءت عطلته.
ثانياً: عدم تطبيق العقوبات الرادعة ضد أي مسؤول يعطل تنفيذ أحكام القضاء، ورغم أنه لا توجد نصوص نظامية تقرر عقوبات خاصة عن مثل هذا الفعل على وجه التحديد – وهذا مطلبٌ ملحّ – إلا أن هناك من النصوص النظامية ما يكفي لتجريم ومعاقبة من يرتكب هذا الفعل، وأبرزها ما نص عليه المرسوم الملكي الشهير رقم 43 لعام 1377ه الذي نصت المادة الثانية منه على عقوبة تصل لسجن عشر سنوات بحق من ارتكب بعض الجرائم ومنها "سوء الاستعمال الإداري كالعبث بالأنظمة والأوامر والتعليمات وبطرق تنفيذها امتناعا أو تأخيرا ينشأ عنه ضرر خاص أو عام ويدخل ضمن ذلك تعمد تفسير النظم والأوامر والتعليمات على غير وجهها الصحيح أو في غير موضعها..". وغيرها من النصوص التي تنطبق على هذا الفعل.
وقد أسهم هذان السببان في ترك هذه القضية الشائكة معلّقة ً دون حسم، وأضاع الكثير من الحقوق، وأشغل أذهان الحقوقيين فتحدثوا عنها كثيراً وتناولوها بطرق ووسائل متعددة، ولعل آخرها التحقيق الذي نشر في هذه الصحيفة بتاريخ 10/4/1437ه بعنوان "تأخر تنفيذ الأحكام القضائية ضد الجهات الحكومية.. يكفي مماطلة" وقد أبدى عدد من المتخصصين استياءهم الكبير من هذه المشكلة التي أخشى أن تتحول إلى ظاهرة تفرّغ القضاء الإداري من الغاية من وجوده، وتحوّل أحكامه إلى مجرد محررات لا تفيد حاملها.
وحتى تكون الصورة واضحة ً أكثر أضرب مثلاً بقضية وقفت عليها بنفسي، صدر فيها حكمٌ قضائيٌ نهائي، ضد أحد الجهات الحكومية، فرفضت التنفيذ، وتمسكت باعتراضها على الحكم – رغم اكتسابه الصفة القطعية واستنفاد كل طرق الطعن عليه نظاماً – ورفعت المعاملة للوزارة بطلب رفعها إلى المقام السامي للموافقة على إعادة النظر في الحكم، واستمرت القضية عدة أشهر تحت الدراسة في الوزارة، ثم صدر توجيه الوزير بعد دراستها بأن على تلك الجهة تنفيذ الحكم وعدم وجاهة اعتراضها عليه، إلا أنها استمرت برفض التنفيذ، وكررت رفع القضية للوزارة، وما زالت تراوح مكانها دون تنفيذ للحكم.
وقد التقيت معالي الوزير وأطلعته على امتناع تلك الجهة عن تنفيذ الحكم القضائي النهائي رغم صدور توجيه الوزير نفسه بتنفيذ الحكم، فلم يتخذ أي إجراء جاد لإنفاذ الحكم وفقاً لما تلزمه به الأنظمة والأوامر السامية الواضحة.
وقد نص النظام الأساسي للحكم في المادة (50) منه على أن "الملك أو من ينيبه معنيون بتنفيذ الأحكام القضائية" إذاً فمسؤولية الملك يجب أن تبقى هي المرحلة النهائية التي يعتبر اضطرار صاحب الحق إلى اللجوء إليها علامة ً على إخلال المسؤول الذي أنابه الملك على تنفيذ الأحكام القضائية بواجبه.
والمسؤول في المقام الأول هنا هو الوزير في الأحكام الصادرة ضد وزارته، فيجب عليه أن يبادر فوراً بتنفيذ الحكم القضائي، ومحاسبة كل من يقوم بتعطيله والمماطلة في تنفيذه من موظفي وزارته.
إلا أن الواقع – وبكل أسف – يدل على خلل واضح في هذا الجانب، والسؤال الذي يطرح نفسه: أين يذهب من يحمل في يده حكماً قضائياً ضد جهة حكومية ليحصل على حقه منها؟ هل من المعقول أو المقبول أن يشغل الناس المقام السامي الكريم بشكاواهم في هذا الصدد، وكأن الأنظمة والتعليمات الواضحة لا تفي بالغرض؟ أم يتجهون لوسائل الإعلام – كما حصل في أكثر من قضية – لإيصال صوتهم؟!.
هل تعتبر ممارسة ً مقبولة، وظاهرة ً يمكن السكوت عنها، أن يطلع الوزير على حكم قضائي واجب النفاذ، يعطّل تنفيذه على يد أحد موظفي وزارته فلا يحرك ساكناً؟!.
إن تعطيل هذه الحقوق يفضي إلى انتشار الفساد، ويضطر أصحاب الحقوق إلى سلوك المسالك – غير المشروعة – والرضوخ للمساومة من بعض ضعاف النفوس حتى يتمكنوا من الوصول إلى حقوقهم.
هذه إشكالية ٌ عميقة، وخللٌ يستوجب سرعة التصحيح. وولاة الأمر – حفظهم الله – لا يقبلون بمثل هذه الممارسات، فالأمل كبيرٌ بأن تحظى هذه القضية الحقوقية العادلة بما تستحق من عناية واهتمام.
والحمد لله أولاً وآخرا.