الواسطة في نيل الحقوق

الواسطة
مقال اسبوعي ينشر كل يوم أربعاء في جريدة الرياض

من الإشكالات الخطيرة التي أصبحت ظاهرة عامة وقاعدة مستقرة في نفوس الناس، أن كل ذي حق يبحث عن واسطة حتى يتمكن من الوصول إلى حقه، أياً كان ذلك الحق وفي أي جهة كانت، حتى الجهات القضائية لم تسلم من هذا البلاء، فكثيراً ما مر بي من خلال عملي في القضاء أو المحاماة من يبحثون بشتى الطرق عن أي طريقة توصلهم إلى القاضي (لشرح وجهة نظرهم) وطبعا يكون قصدهم الوصول إليه عن طريق صديق أو قريب خارج إطار مجلس القضاء، وفي غياب من الطرف الآخر في الدعوى.

وطبعاً لا يعني ذلك أن القضاة قد يفتحون الباب لمثل هذه الوسائل، بل إن بعض القضاة جزاهم الله خيراً إذا كلّمه أحد في خصومة لديه غضب وأقفل الباب على من حاول الوصول إليه بمثل هذه الطرق وأفهمه أن الباب الوحيد لشرح وجهات النظر وتقديم ما يخص الدعوى هو باب المجلس القضائي في حضور الطرف الآخر وبعلمه.

ولكن يوجد استثناءات على هذا الأصل، فبعض الناس ينجحون في تحقيق غاياتهم ويجدون من يفتح الباب لمثل هذه الأساليب الملتوية.

وفي بداية عملي في المحاماة كثيراً ما أتاني من يعرضون علي قضاياهم ليس بحثاً عن خبرة قضائية ولا معرفة وفهم؛ ولكن بحثاً عن علاقات وثيقة بأصحاب الفضيلة قضاة ديوان المظالم بصفتي كنت زميلاً لهم. فإذ بصاحب القضية يسألني عن مدى علاقتي بالشيخ فلان ومعرفتي بالشيخ فلان! فإذا ما أفهمته بأن الأهم هو موضوع قضيته وعدالة مطالبته وأنه لا دخل لعلاقتي بالقاضي في موضوع القضية، ولّى هارباً ولم يعقّب.

إن هذه المشكلة المزمنة في نظري ليست خطأ الناس، ولكنها نتيجة طبيعية لما ألفوه من ممارسات أصبحت سائدة بأن الواسطة والمعارف والعلاقات تؤثر كثيراً في مدى استجابة المسؤول أو الموظف المختص لطلب أو تظلم صاحب الحق، فمن جاء عن طريق صديق أو عزيز على ذلك المسؤول، فتح له مكتبه وأذنيه ومنحه من الوقت ما يكفي لسماع وجهة نظره، وبذل جهد أكثر من المعتاد لمحاولة تحقيق طلبه أو إعطائه ذلك الحق الذي يطالب به، رغم أن هذا الجهد الذي بذله المسؤول أو النتيجة التي وصل إليها صاحب الحق كانت مكفولة له بقوة النظام دون الحاجة إلى منّة أحد أو تفضله.

بل وفي صورة أسوأ وأشد قبحاً من ذلك أن بعض أصحاب الحقوق يضطرون إلى المساومة على جزء من حقوقهم يصل أحيانا إلى التنازل عن نصفها للوصول إلى النصف الباقي، وقد تكون تلك المساومة إما من مسؤول فاسد أو حتى من الوسطاء الذين يتعهدون لصاحب الحق أن يوصلوه إلى حقه شريطة أن يتنازل لهم عن جزء كبير منه فيه إجحاف وظلم بصاحب الحق، حتى أصبح القبول بالظلم هو الطريق للوصول إلى بعض العدل.

وهذه المشكلة الخطيرة من أعظم الظلم، وتجعل الضعيف الذي لا سبيل لديه للوصول إلى مثل هذه الطرق، أو أنه متمسك بحقه لا يرضى بالتنازل عن جزء منه، يضطر للاستمرار في الحرمان من حقه، والصبر على الطرق التقليدية والوسائل النظامية والقانونية أو القضائية للمطالبة بذلك الحق حتى تتشعب به مسالكها، ويمضي عليه العمر الطويل دون تحقيق أي نتيجة، أو الوصول إلى نتيجة لا تكفي لرفع كامل الضرر وحصول كامل الحق، وبعضهم قد ييأس ويدع حقه تطويه الأيام، ولكنه قطعاً عند الله لا يضيع، يوم يعض الظالم على يديه.

والمسؤولية العظيمة أمام الله عز وجل أولاً ثم أمام ولي الأمر الذي لا يرضيه قطعاً مثل هذه الأفعال، تقع على عاتق جميع المسؤولين من وزراء، كل فيما تحت يده، ومسؤولي الجهات الرقابية، وكبار موظفي الوزارات الذين يكون لهم دور أو رأي أو قرار في معاملات الناس وحقوقهم، ولا تبرأ ذمة أي منهم حتى يبذل كامل جهده في إنصاف المظلوم، وإيصال الحق لصاحبه، وسماع شكاوى الناس والتحقق منها بنفسه، والبحث لهم عن حلول سريعة وعادلة، وأن يضع في اعتباره كما لو أن صاحب الحاجة الواقف أمامه قد جاءه عن طريق أعز وأقرب الناس إليه، فهذا ما يمليه عليه واجب المسؤولية التي احتملها، وواجب الأخوة الإسلامية التي تربطه بأخيه، فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

يجب أن نعلن جميعنا الحرب على هذه المسالك المشينة الظالمة، وأن نعلم بيقين أن ضياع الحقوق وعجز أصحابها عن الوصول إليها خطر عظيم على الأمة والدولة، وأنه حتى كفار قريش في الجاهلية تداعوا بينهم إلى حلف يتعاهدون بموجبه على نصرة المظلوم، وهو الحلف الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبْت، تحالفوا أن (يردوا) الفضول (على) أهلها، وألا يعد (ظالم) مظْلوما"، ونحن بحمد الله لسنا بحاجة إلى مثل هذا الحلف في ظل دولة تحكم بشرع الله عز وجل وفيها من الأنظمة والقوانين ما يكفل لكل صاحب حق الوصول إلى حقه دون منّة أحد، وتجعل الناس سواسية لا فرق بينهم أمامها، إنما حاجتنا فقط إلى تفعيل ذلك وتطبيقه على الوجه الذي يبرئ الذمة، واستشعار خطر التهاون في ذلك أو عدم الاكتراث بضياع حقوق الناس.

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني