ضياع الاختصاصات ضياع للحقوق
في إحدى الجلسات التي عقدها مجلس الشورى لمناقشة نظام المرافعات الشرعية طالب أحد أعضاء المجلس بتضمين هذا النظام، النص على إيجاد لجنة في كل محكمة تتولى تقرير الاختصاص القضائي لكل قضية تقدم إلى المحكمة قبل إحالتها إلى القاضي للنظر فيها، وتأتي هذه المطالبة من عضو المجلس في ظل ما يشهده الواقع من أخطاء ٍ جسيمة ٍ تحدث في المحاكم حول هذه المسألة وهي الخطأ في تحديد الاختصاص النوعي للمحكمة ناظرة الموضوع، ويتضح ذلك جلياً في القضايا التجارية التي تنظرها الدوائر التجارية في ديوان المظالم والتي ترجع في تحديد اختصاصها إلى نصوص نظام المحكمة التجارية، هذا النظام البائد السائد الذي صدر قبل توحيد المملكة أي في عام 1350هـ وما زال معمولاً به إلى اليوم. والاقتراح الذي طرحه عضو مجلس الشورى الموقر هو أحد الحلول والمعالجات التي يمكن اللجوء إليها لتحديد الاختصاص النوعي للقضايا التي تعرض على المحاكم لتحديد الاختصاص فيها على وجه الدقة قبل الدخول في نظر الدعوى موضوعياً. ومن القواعد المتقررة في القضاء أن القاضي يجب عليه قبل الدخول في نظر الدعوى موضوعياً أن يتحقق من توافر جميع أركانها الشكلية وأهمها مسألة الاختصاص النوعي، بحيث لا يخوض القاضي في موضوع ٍ ليس مختصاً بنظره أصلاً، كما أن من المعلوم أن الاختصاص النوعي يعد من النظام العام الذي يجب على القاضي التحقق منه وبحثه حتى ولو بغير طلب ٍ أو دفع ٍ بعدم الاختصاص من أحد الخصوم. إن أهمية هذا الموضوع تتضح إذا نظرنا إلى صدور عدة أحكام ٍ من المحاكم عموماً تقضي بعدم اختصاص المحكمة بموضوع النزاع، ويكون هذا الحكم صادراً بعد أن تمضي المحكمة أو الدائرة القضائية مدة ً طويلة ً في نظر الدعوى، وتكون قد قطعت شوطاً كبيراً في بحث الموضوع وباشرت فيه كثيراً من الإجراءات التي تمس حقوق طرفي الدعوى، ثم يفاجأ أطراف الدعوى بصدور حكم ٍ بعد اختصاص المحكمة بنظر هذه الدعوى بعد سنوات ٍ طويلة ٍ كان من المفترض أن تنتهي الخصومة فيها بحكم ٍ بات ٍ ونهائي ٍ في الموضوع، لا أن يصدر حكم ٌ بعدم الاختصاص ليبدأ الخصوم من جديد رحلة ً للتقاضي في محكمة ٍ أخرى تبدأ معهم من نقطة الصفر. وحتى يتضح للقارئ الكريم ولعموم القائمين على الشأن القضائي شناعة هذه المسألة وضررها الفادح على العدالة وحفظ الحقوق، أورد لها عدة أمثلة: ــ بين يدي حكم ٌ صادر ٌ من إحدى الدوائر التجارية في ديوان المظالم يقضي بعدم اختصاص ديوان المظالم ولائياً بقضائه التجاري بنظر قضيتين استمر نظر الدائرة لهما ست سنوات، وقامت الدائرة فيهما بتعيين حارس ٍ قضائي على مجمع ٍ عقاري كبير، ثم بعد ست سنوات ٍ عجاف ٍ من النظر القضائي العقيم صدر هذا الحكم ليعيد أطراف المنازعة إلى نقطة الصفر ويقول لهما إن الدعوى عقارية وليست من اختصاص القضاء التجاري! من المسؤول عن هذا الخطأ ؟! وهل يمكن القول إنه من الأخطاء التي تحدث بشكل ٍ عادي نتيجة اجتهاد ٍ سائغ ٍ تبين خطأه فيما بعد؟ وهل من المقبول أن تستمر دائرة ٌ قضائية ٌ مكونة ٌ من ثلاثة قضاة في نظرها دعوى ليست من اختصاصها لمدة ست سنوات ليتبين لها بعد هذه السنوات أن الدعوى من دعاوى القضاء العقاري التي لا تدخل في اختصاص القضاء التجاري؟ ومن المسؤول أيضاً عن تعويض أطراف الخصومة الذين تكبدوا خسائر مالية متمثلة ٍ في أتعاب المحامين وفي نفقات الدعوى وفي أجرة الحارس القضائي طيلة هذه السنوات الست دون أي فائدة ٍ ليعودوا في بحث قضيتهم من درجة الصفر؟ من المسؤول عن كل ذلك؟ ــ وفي قضية ٍ أخرى مشابهة أصدرت إحدى الدوائر التجارية في ديوان المظالم أيضاً حكماً بتعيين حارس ٍ قضائي على مؤسسة ٍ فردية ٍ مات مالكها واختلف ورثته على التركة فطلبوا تعيين حارس ٍ على المؤسسة وتم تعيينه، وباشر أعماله في المؤسسة عدة سنوات واستمرت هذه الدائرة في التصدي للدعوى ثم حكمت فيها بعد سنوات وتم رفعها إلى هيئة التدقيق التجاري في الديوان لتكتشف الهيئة أنه لا اختصاص للقضاء التجاري بنظر نزاع ٍ على تركة ولا بتعيين حارس ٍ قضائي على مؤسسة ٍ فردية لأن ذلك ليس من قبيل خلاف الشركاء في الشركات ولا من قبيل الأعمال التجارية، فحكمت هيئة التدقيق بإلغاء الحكم وإحالة القضية إلى المحكمة العامة لمباشرة اختصاصها فيها، وكان من حكمة أصحاب الفضيلة قضاة التدقيق أن حكموا أيضاً باستمرار العمل بتعيين الحارس القضائي لحين مباشرة قاضي المحكمة العامة نظر الدعوى ليقرر بعد ذلك ما يراه فيها، وذلك مراعاة ً لعدم ضياع الحقوق مع أنه لا اختصاص لهيئة التدقيق التجاري أصلاً بتعيين الحارس القضائي لكن ذلك كان بحكم الضرورة. ــ ومن أمثلة هذه الأخطاء ما حدث ويحدث في ديوان المظالم أيضاً منذ عدة سنوات من تردد ٍ في تحديد اختصاص قضايا العلامات التجارية ما بين الدوائر التجارية أو الدوائر الإدارية، وبسبب هذا التردد ضاع كثير من القضايا التي صارت الدوائر التجارية والدوائر الإدارية تتقاذفها فيما بينها أو على أحسن الأحوال لجأت بعض الدوائر التي تنظر قضايا العلامات التجارية إلى إطالة أمد القضية وتأجيل الجلسات بشكل ٍ متكرر ٍ ولفترات ٍ متباعدة وأوقفت نظرها لهذه القضايا لحين اتضاح الصورة حول موضوع الاختصاص، والضحية في كل ذلك هم أصحاب الحقوق من أطراف المنازعة القضائية، بحيث ترى القضية التي لا تستحق في نظرها سوى سنة واحدة تبقى منظورة ً خمس أو ست سنوات ٍ دون فصل فيها. كما أن مما يزيد الأمر سوءاً بدرجة ٍ كبيرة أن ديوان المظالم شهد في الفترة الأخيرة تعيين أعداد ٍ كبيرة ٍ من القضاة المستجدين، وفي ظل تعيين هذا العدد سيكون من المؤكد أن تحدث أخطاء ٌ أكبر جسامة وأكثر تخبطاً في هذا المجال لأن تحديد الاختصاص قد يتطلب درجة ً من الخبرة القضائية والفهم الذي لا يتوافر في القاضي المعين حديثاً. وهذه المسألة إحدى الإشكالات الكبيرة التي تعترض حسن سير عملية التقاضي وتعوق القضاء عن القيام بمهمته وأداء رسالته على أحسن وجه، ذلك أن معيار نجاح القضاء في أداء دوره يرجع إلى تحقيق العدل وإيصال الحقوق لأهلها والفصل في الخصومات بأقصر الطرق وبأحسن الوسائل. ومن هذا المنطلق وبعد أن ظهرت لنا خطورة هذه المسألة فإن الواجب المتعين على الجهات القضائية في المملكة أن تسعى لإيجاد آلية ٍ دقيقة ٍ وواضحة وتوفير وسائل عملية ٍ أكثر للقضاء على هذه الظاهرة والحد من سلبياتها وحفظ حقوق الناس وعدم تركها تضيع أمام اجتهادات خاطئة غير مبررة ولا مقبولة. ولعل من الوسائل الناجعة لحل هذه المشكلة ما يلي: 1- تحديد جهة أو لجنة ٍ في كل محكمة لتقرر مسألة الاختصاص قبل إحالة الدعوى للقاضي، وهذا ما طالب به أحد أعضاء مجلس الشورى كما أشرت. 2- تعميم ونشر كل حكم ٍ يصدر من القضاة والدوائر القضائية بعدم الاختصاص النوعي بعد اكتسابه الصفة القطعية على جميع القضاة العاملين في اختصاص المحكمة مصدرة هذا الحكم ليكون معلوماً لديهم وتقوم عليهم الحجة به. 3- يجب عقد ورش عمل ودورات ٍ تدريبية للقضاة لتأهيلهم في هذا الجانب وإيضاح الاختصاصات التي يناط بهم نظرها بشكل واضحٍ ودقيق. 4- يجب التأكيد على القضاة بأهمية بحث مسألة الاختصاص قبل الشروع في الدعوى موضوعياً وأن يبذلوا في ذلك قصارى جهدهم ولا يباشرون نظر الموضوع إلا بعد التحقق من اختصاصهم النوعي خصوصاً. 5- يجب تشجيع القضاة على استشارة قضاة الاستئناف مباشرة ً فيما أشكل عليهم من مسائل الاختصاص، حيث إن المرجع في تحديد الاختصاص هو محكمة الاستئناف. 6- كما ينبغي التنبه لمسألة مهمة في ذلك وهي أنه لا ينبغي تشكيل دوائر أو محاكم قضائية ثلاثية يكون كل أعضائها من القضاة الجدد قليلي الخبرة دون أن يكون من بينهم أحد القضاة الأكثر خبرة. 7- مما يسهم في القضاء على هذه المشكلة تعيين المستشارين الأكفاء في المحاكم وإسهامهم في التخفيف عن القضاة ببحث جوانب القضية الشكلية ودراستها وإعداد تقرير عنها يساعد القاضي عند مباشرة نظر الدعوى. 8- ثم أخيراً ينبغي تفعيل مسألة مساءلة القضاة عن الأخطاء التي تبلغ من الجسامة مثل ما أشرت إليه من الحكم بعدم الاختصاص بعد ست سنوات من نظر الدعوى، فهذا الخطأ مما لا ينبغي السكوت عليه إطلاقاً بذريعة أنه من قبيل الاجتهاد السائغ. ثم إن مما لاحظته من خلال عملي في القضاء في ديوان المظالم وهو لا يزال موجوداً إلى الآن أن بعض الدوائر أو القضاة عندما يترددون في تحديد الاختصاص في قضية معينة يبادرون إلى الحكم بعدم الاختصاص مع عدم جزمهم بصحته رغبة منهم في أن تتصدى محكمة الاستئناف لتقرير هذه المسألة بدل أن يستمروا في نظرها عدة سنوات ثم تنتهي بعدم الاختصاص، إلا أن هذا الأمر غير جائز ٍ ولا سائغ شرعاً ولا نظاماً وأن الواجب على القاضي أن يبذل قصارى جهده من البحث والتقصي والاستشارة إذا أشكل عليه الاختصاص ــ ولا أعتقد أن تحديد الاختصاص النوعي أصبح معضلة ً إلى هذا الحد ــ وأن الحكم بعدم الاختصاص لمجرد التخلص من عناء البحث أو خوف الخطأ في الاجتهاد يترتب عليه ضياع مدة طويلة قد تصل لسنتين في ظل التأخير الشديد في نظر القضايا لدى محاكم الاستئناف في الديوان حالياً، وهذه المدة التي تضيع هدراً هي من عمر العدالة. إذاً فإن ضياع الاختصاصات وبقاءها هكذا في تردد وتخبط إنما هو قتل ٌ للعدل وضياع ٌ للحقوق ومانع للقضاء من القيام بدوره الشريف على أحسن وجه. والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.