في تطوير القضاء. . حفظ الحقوق أولاً

مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

ما من شكٍّ في أن مشروع خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - لتطوير القضاء يعتبر نُقلة ً نوعية ً كبيرة لهذا المرفق المهم، وسعياً إلى رفع كفاءته ليقوم بدوره العظيم الجليل في بسط العدل على الأرض ورفع الظلم والجور، وإيصال الحقوق لأصحابها، عبر آليةٍ جديدة تواكب احتياجات الناس وظروف العصر الحديث. كما لا يخفى على كل عارفٍ ومتابع أن تحقيق غايات هذا المشروع الكبير، يتطلب جهوداً كبيرة تستغرق الكثير من الوقت والعمل، وقد يتطلب تحقيق هذه الآمال بذل بعض التضحيات وتقديم المصالح العامة على الخاصة، إلا أن من أولى المسائل بالاهتمام وأجدر الأمور بالعناية أن يضع القائمون على مرفق القضاء من أصحاب المعالي والفضيلة نُصب أعينهم حماية حقوق المتقاضين في هذه المرحلة، لأنه لا يجوز بأية حال التذرع بدعوى التطوير والتحديث وجعل ذلك حجة لإضاعة حقوق الناس أو إهدار الضمانات التي يجب أن يحصلوا عليها أثناء لجوئهم إلى القضاء للبحث عن حقوقهم أو رفع تظلماتهم. إن المتابع لحركة الجهات القضائية في هذه المرحلة يجد حالة من الارتباك الشديد في ما يحدث داخل المحاكم وديوان المظالم بفروعه من تعيينات متتالية وتنقلات للقضاة سواء كان انتقالاً مكانياً أو تغييراً في تشكيلات الدوائر القضائية في ديوان المظالم أو حتى ترقيات للاستئناف أدت لترك كثير من القضاة مواقعهم وانتقالهم إلى محاكم الاستئناف التي لا تزال تسمى بذلك صورياً في حين أنها لا تمارس فعلياً عمل الاستئناف، وقد أدى هذا الارتباك إلى إهدار كثير من الحقوق والتأثير السلبي في إنجاز القضايا المنظورة حالياً وتشتيت أذهان القضاة الذين لم يعد لهم من شغل سوى في تحري ومتابعة ما يخصهم من هذه التغيرات، ولم يعد إنجاز القضايا من أولويات القضاء بل أصبح قرباناً يذبح لأجل تحقيق الغاية المسماة بـ (تطوير القضاء). ولعل من أبرز الجوانب التي تؤكد هذه الحقيقة ما يلي: أولاً: ما يتم هذه الفترة من تعيينات للقضاة بأعداد كبيرة من الخريجين الجدد وهذه التعيينات التي تتم تباعاً وبشكل متسارع لتغطية النقص الهائل في أعداد القضاة، وهي خطوة مباركة موفقة، إلا أنه فيما يخص ديوان المظالم ولكونه يتضمن قضاء متخصصاً (القضاء الإداري - القضاء التجاري - القضاء الجزائي - القضاء التأديبي) وهذه الفروع المتخصصة للقضاء كلها مما يتطلب تأهيلاً خاصاً للقاضي الذي يعين فيها بحيث لا يمكن مطلقاً أن يسند القضاء فيها إلى متخرج حديث في كليات الشريعة أو حتى الحاصل على شهادة الماجستير من المعهد العالي للقضاء أو دبلوم معهد الإدارة العامة. بينما يحدث في ديوان المظالم هذه الأيام أن تجد كثيراً من القضاة الجدد منذ بداية تعيينه وهو يمارس القضاء فعلياً في إحدى الدوائر القضائية دون إخضاعه لأي تطبيق عملي أو فترة تدريب يحضر فيها الجلسات ويشارك في البحث والمداولة دون أن يكون له صوت معتبر في الحكم، بل والأسوأ من ذلك أن هناك عدداً من الدوائر القضائية مشكَّلة من قضاة ثلاثة قد يكون أقدمهم ليس له من خبرة قضائية إلا سنة أو ما يقاربها، وبهذا تكون دائرة قضائية تنظر حقوق الناس وتفصل في أعوص المسائل وليس من بين قضاتها من له خبرة قضائية يعتمد عليها، وهذا الواقع أدى إلى تعطيل القضايا وإلى إرهاق كاهل القضاة بعمل لم يتهيأوا له بالخبرة والتدريب الكافي. كما أدى إلى صدور عدد كبير من الأحكام التي يتضح فيها الضعف في الصياغة والركاكة في الأسلوب فضلاً عن الاجتهادات التي تشطح بعيداً عن الصواب، ليكون بعد ذلك قضاة محاكم الاستئناف في فوهة البركان وفي فم المدفع ويتصدون في الحقيقة لتدقيق هذه الأحكام وتمحيصها بدرجة عالية من البحث والتقصي لعلمهم بمستوى من أصدرها، وبهذا غرق الفريقان (قضاة الدوائر الابتدائية وقضاة الاستئناف) في خضم بحر متلاطم من القضايا، وأصبح الضحية في أول الأمر وآخره أطراف هذه القضايا خصوصاً من له حق ضائع أو من يشتكي من ظلم واقع، أما المماطل أو الظالم فهو في غاية سعده ومنتهى غايته. ولهذا السبب فإني أرى أن يوقف نشر الأحكام على الناس أو استخلاص المبادئ القضائية منها، وأن يقتصر النشر واستخلاص المبادئ على أحكام المرحلة السابقة التي تعتبر مرحلة استقرار للأحكام ونضج وعمق. ثانياً: ما يحدث أيضاً هذه الأيام خصوصاً في ديوان المظالم من تكثيف الدورات التدريبية للقضاة في شتى بلاد العالم وفي مواضيع كثيرة - أعتقد من وجهة نظري المتواضعة أنها ليست من الأولويات في هذه المرحلة - بحيث تجد الديوان ينتدب الأعداد الهائلة من القضاة لأخذ دورة قصيرة في مهارات الاتصال أو العادات السبع أو العشر أو هندسة الإجراءات، بينما يكون من بين هؤلاء القضاة من لا يجيدون فهم نظام الشركات ولا أحكام العقود خاصة العقود المستحدثة، مما ظهر أثره جلياً في الأحكام، وأصبح أصحاب القضايا يشتكون ويتذمرون من تباعد مواعيد الجلسات ومن البطء الشديد في إنجاز القضايا، وليت الأمر اقتصر على ذلك بل إن المراجع إذا أعطي موعداً لنظر قضيته بعد عدة أشهر وجاء في موعده الذي انتظره على أحر من جمر يفاجأ بعدم وجود القاضي دارس القضية وأنه ذهب إلى بيروت أو إلى المغرب أو ماليزيا ليأخذ دورة في كيفية التبسم في وجه المراجع أو في تحمل ضغوط العمل! ثم لا يشفع له انتظاره الطويل في أن يعطى موعداً آخر قريباً وإنما يعطى موعداً بعد عدة أشهر أخرى. وأثناء مناقشة مجلس الشورى لتقرير ديوان المظالم عن الأعوام (1427-1428هـ) تطرق أحد أعضاء المجلس إلى مسألة الدورات التي يعقدها الديوان لقضاته، فأشار إلى أنها قصيرة ولا تكفي لرفع كفاءة القضاة وزيادة تأهيلهم المطلوب، غير أن الدورات التي يعقدها الديوان هذه الأيام أصبحت كمن يستغرق في صلاة النافلة ليضيع الفريضة ومن المتقرر شرعاً (أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة). فليس من المصلحة حالياً أن يتم تشتيت القضاة في كل البلاد ليتركوا إنجاز قضايا الناس الذين يعانون ضياع حقوقهم ويبكون من الظلم الواقع عليهم. إن هذه الدورات يجب أن تراعي عدة ضوابط مهمة وأن لا تؤثر أبداً في إنجاز قضايا الناس وأن يبتدئ فيها بالأهم فالمهم فالقاضي خصوصاً الحديث يحتاج إلى دورات في أحكام الإثبات وفي العقود وفي الأنظمة ذات الصلة بتخصصه سواءً نظام الشركات أو نظام غيره من أنظمة تجارية أو جنائية، وهذا أولى من المواضيع التي ينتدب القضاة حالياً لها. ثالثاً: كما يجب أيضاً أن يراعى عند إصدار حركات النقل للقضاة سواءً كان نقلاً مكانياً أو إعادة تشكيل للدوائر كما في ديوان المظالم أن لا يؤدي ذلك إلى إطالة أمد القضايا بشكل غير مقبول، فأصحاب القضايا الذين ينتظرون الفصل في نزاعهم على مدى أربع أو خمس سنوات أو أكثر من ذلك لا يجوز أن يتم بجرة قلم نقل القاضي الذي كان يدرس قضيتهم من دائرته ليأتي قاضٍ جديد يسألهم بعد خمس سنوات أيكما المدعي؟ وأيكما المدعى عليه؟ وما هي الدعوى؟! وقد كان ديوان المظالم في السابق عندما يعيد تشكيل دوائره كان يلزم الدائرة بتشكيلها السابق بأن تستمر في نظر القضايا المحجوزة للحكم، أما في التشكيلات الأخيرة فلم يحدث ذلك ولم يفرق بين القضية المحجوزة للحكم وغير المحجوزة. كما أنه من الملاحظ أيضاً في ديوان المظالم كثرة التغييرات والتعديلات في تشكيلات الدوائر القضائية طيلة السنوات الماضية وإلى الآن بحيث أصبحت الدوائر تتعرض لتغيير القضاة كل سنتين أو أقل مما أدى لتأخير القضايا وتشتيت القضاة دون ضرورة لذلك إلا بناء على اعتبارات شخصية في كثير من الأحيان. إن مثل هذه القرارت التي لا تراعي التأثير السلبي في إنجاز القضايا لا تؤدي إلى إصلاح أو تطوير أبداً بل تقود إلى زيادة فقدان الناس الثقة في القضاء، وشحن مشاعرهم الغاضبة على القضاة وعلى المجتمع، وهم يرون حقوقهم مهدرة ضائعة لا يلتفت أحد إلى تظلماتهم ولا يبالي بتطاول الزمان عليهم. إنها مناصحة ومناشدة أوجهها لمشايخي أصحاب المعالي والفضيلة القائمين على مرفق القضاء بأن يضعوا نصب أعينهم حقوق الناس، وأن يعلموا أن العدل البطيء ظلم، وأن كل صاحب مظلمة أو مشتك له حق في محاكمة عادلة يكفل له فيها كل الضمانات القضائية وأن يكون ذلك في وقت معقول دون تباطؤ أو تأخير غير مبرر، وذلك حتى تمر مرحلة تطوير القضاء بأقل الأضرار والخسائر في الحقوق وهي مسؤولية عظيمة أمام الله عز وجل ثم أمام ولي الأمر. وختاماً أسأل الله لأصحاب الفضيلة القضاة التوفيق والتسديد والإعانة وأن يهديهم الله لما اختُلف َ فيه من الحق والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل.

 

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني