مستوى الفهم القانوني عند المتخصصين
كثيراً ما يتحدث المتخصصون ويؤكدون أن لدينا ضعفاً كبيراً في الوعي القانوني في أوساط أفراد المجتمع بحقوقهم وبالأنظمة الأساسية التي تحكمها، وهذه الحقيقة ليست محل نقاش أو تشكيك، إلا أن ما أتناوله اليوم يختلف كثيراً عن جهل الأفراد العاديين وضعف وعيهم القانوني، إذ لا يلام من ليس من أهل الاختصاص بجهل مثل هذه الأمور، وإن كان الأولى انتشار الوعي في أوساط الناس بالجوانب الأساسية للحقوق التي يحتاجون إليها دوماً في حياتهم .
لكن المشكلة التي أود تناولها اليوم تتجاوز جهل غير المتخصصين إلى جهل المتخصصين، فقد فاجأني كثيراً ما رأيته عبر عدة سنوات من الاشتغال بالقضاء والمحاماة، من جهل كثير من المتخصصين في القضاء والحقوق والقانون بأمور َ أساسية لا يُعذر أمثالهم بجهلها، سيما ما يتعلق بمسائل الاختصاص القضائي النوعي.
فكثير من الحقوق شارفت على الضياع والتشتت بسبب هذه المسألة، وتكون المشكلة أكبر وأعمق حين يجتمع في الجهل بالاختصاص المحامي مع القاضي، فلا يكون أحدهما أفهم من الآخر، فتبقى القضية منظورة لدى المحكمة غير المختصة لمدة وصلت في إحدى القضايا إلى سبع سنوات، ثم يكتشف القاضي نفسه أو القاضي الذي أتى بعده أو الاستئناف أن المحكمة غير مختصة أصلا بنظر هذا النزاع، ولا يقف الحدُ عند ضياع هذه المدة دون نتيجة، بل يتجاوزه إلى أن القضية حين تحال إلى المحكمة المختصة يبدأ القاضي الجديد بنظرها باجتهاد جديد وبإجراءات جديدة ، وتضيع كثير من الجهود والإجراءات التي قام بها القاضي غير المختص .
ففي مثل هذه المسألة يتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى المحامي الذي كان يفترض به أن يدرس جيداً ويتحقق من المحكمة المختصة قبل التوجه بدعواه إلى أي محكمة دون تدقيق أو بحث متأنٍ
وقد تكون بعض صور الدعاوى غامضة لا يتضح الاختصاص فيها بسهولة للمحامي أو القاضي، وبعضها تصدر فيها أحكام متعارضة بتدافع أو تنازع الاختصاص، ومثل هذه الدعاوى قد يُعذر فيها المحامي أو القاضي، لكن هناك الكثير جداً من الدعاوى التي لا لبس فيها ولا غموض، وواضحة وضوحاً لا يخفى إلا بسبب ضعف الفهم لدى المحامي أو القاضي الذي خفيت عليه .
ولعلي هنا أسوق بعض الأمثلة لأغرب ما مر بي من القضايا التي وقع فيها هذا الخطأ لتتضح الصورة بشكل أكبر :
فمن ذلك مثلاً أن أحد التجار كان يملك مؤسسة تجارية كبيرة، وقد سجل باسم مؤسسته كل ما يملك من أموال وعقارات، وبعد موته اختلف ورثته في قسمة هذه الأموال وتنازعوا أمرهم بينهم، ولجأوا إلى القضاء التجاري في أحد فروع ديوان المظالم، فقبلت دعواهم، ومنذ بداية نظرها عينت المحكمة حارساً قضائياً على المؤسسة لحين انتهاء الدعوى، وباشر الحارس القضائي عمله في إدارة المؤسسة، واستمرت الحال على ذلك عدة سنوات، ثم حين صدر عن الدائرة التجارية حكم ابتدائي ورفعت القضية لهيئة التدقيق (سابقاً) اكتشفت الهيئة خطأ الدائرة الذريع، بنظرها لنزاع ٍ لا يعتبر نزاعاً تجارياً، كما لا يعتبر نزاع شركاء، والقضاء التجاري لا ينظر إلا أحد هذين الاختصاصين، وقررت هيئة التدقيق أن هذه الدعوى ليست إلا نزاع ورثة على قسمة تركة، وهو ما تختص به المحاكم العامة قولاً واحداً، وواجهت هيئة التدقيق مشكلة تقتضي التعامل معها باجتهاد ضروري قد لا يسعفه النص النظامي، لكن تتطلبه المصلحة العامة، وهو أن هيئة التدقيق حكمت بنقض حكم الدائرة، وقررت عدم اختصاص القضاء التجاري بهذه الدعوى، لكنها حكمت باستمرار عمل الحارس القضائي لحين إحالة النزاع إلى المحكمة العامة ليقرر القاضي المختص حينئذ ما يراه بشأنه .
ومثال ٌ آخر : نزاع بين شركتين إحداهما مملوكة للدولة، قامت الشركة الحكومية بنزع ملكية أرض مملوكة للشركة غير الحكومية، فتقدم محامي الشركة المالكة للأرض بدعوى عند المحكمة العامة يطالب بالتعويض، فحكم قاضي المحكمة بعدم اختصاصه بهذه الدعوى لكونها نزاعاً بين شركتين يختص بنظره القضاء التجاري في ديوان المظالم، فاتجه محامي الشركة المدعية إلى ديوان المظالم فأقام دعواه بذلك، وحين نظرت الدائرة التجارية هذه الدعوى وجدت أن هناك أمراً سامياً صادراً في نزاع الشركتين وموجهاً لمعالي وزير العدل بأن يُنظر النزاع بين الشركتين قضاء ، فقررت الدائرة التجارية عدم اختصاصها بنظر هذه الدعوى بناء على هذا الأمر السامي .
ووجه الخطأ في هذا الحكم : أن النزاع بين الشركتين ليس نزاعاً تجارياً أصلاً ولا يختص به القضاء التجاري لأنه دعوى تعويض عن ملكية أرض ٍ منزوعة للمصلحة العامة، فيختص به القضاء الإداري، إلا أن استناد الدائرة التجارية على الأمر السامي لنفي اختصاصها، وعدم إشارتها إلى السبب الأهم والأساسي لعدم الاختصاص يعتبر خطأ، إذ يُفهم من حكمها أنه لولا هذا الأمر السامي لكان القضاء التجاري مختصاً بنظر هذه الدعوى .
ومن خلال هذه القصة، فوجئت بأن الجهل بالاختصاص القضائي اشترك فيه محاميان لشركتين من الشركات الكبرى، وقاضي المحكمة العامة، وثلاثة قضاة من قضاة الدائرة التجارية في ديوان المظالم !! وهذا بحد ذاته يبين لنا مدى الضعف الكبير والحقيقي الذي يعيشه المجتمع الحقوقي في المملكة .
والسؤال الأهم والأكبر : ما أسباب هذا الضعف الكبير ؟ وأعتقد أن الأجوبة لا تفي هذه المساحة بسردها واستقصائها، ولكن في نظري أن السبب الأهم والأكبر هو استمرار الفصل بين تدريس الشريعة والقانون، واستمرار اعتبار القانون حكماً وضعياً مناوئاً للشريعة، دون التفريق بين الإجراءات والموضوع .
ومع استمرار مثل هذه الثقافة سائدة ومتحكمة إلا أن لدينا تناقضاً واضحاً وغير مفهوم بين من يحاربون أو ينفرون من تدريس القانون في كليات الشريعة بينما هم بمجرد تخرجهم وعملهم في القضاء أو المحاماة لا يستنكفون عن الالتزام بنصوص النظام والحكم بها في النواحي الإجرائية خصوصا .
وفي هذا السياق لا يفوتني التنويه بمبادرة ٍ متميزة قام بها معالي رئيس ديوان المظالم الشيخ عبدالعزيز النصار منذ تعيينه، وهي أنه وجه بعدم تقييد القضايا وإحالتها إلى الدوائر القضائية إلا بعد التحقق من اختصاص الدائرة بالقضية المحالة إليها، سواء أكانت إدارية أم تجارية.
وهذا بلا شك إجراء يهدف لحفظ حقوق أصحاب القضايا وحمايتهم من إضاعة وقت طويل قد يمضي قبل أن يُكتشف موضوع ُ عدم الاختصاص .
وختاماً كم أرجو أن يأتي اليوم الذي يرتفع فيه الوعي والفهم القانوني الحقوقي لدى المتخصصين أولاً، ثم غير المتخصصي.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه..