معالي الشيخ محمد السعدان .. رجل القضاء الإداري

الشيخ محمد السعدان
مقال اسبوعي ينشر كل أحد في جريدة الإقتصادية السعودية

من أسوأ الأخطاء التي نقع فيها عادة أن نؤخر الوفاء والثناء والشكر لمن يستحقه من المصلحين والعلماء ورجال الفكر أو غيرهم الذين يعيشون بيننا ويمتازون بعطاءاتهم الخيرة لأمتهم ووطنهم، حتى إذا غابوا عنا بدأنا نعلن لهم الوفاء ونعدد مآثرهم بينما كان الأولى بنا والأجدر أن نعلن لهم ذلك في حياتهم وأن نلتفت إليهم ما داموا قادرين على التفاعل معنا وتقديم المزيد لأمتهم ووطنهم. وفي مقالي اليوم عزمت على مخالفة هذا المنهج الخاطئ للإشادة برجل من عظماء الرجال الذين لا يبحثون عن الأضواء ولا يسعون إلى الشهرة كما يسعى لها كثيرٌ من قليلي البضاعة وعديمي الفائدة والمتطفلين على تخصصات ليسوا من أهلها ولم يعرفوا بالفهم فيها. ومنذ فترة طويلة من بدايتي في الكتابة وفكرة الكتابة عن معالي شيخنا تراودني كثيراً فكنت أتهيب منها لعدة أسباب أهمها اثنان، الأول: أن الكتابة عن قامة من القامات العالية أمثال معالي شيخنا ليست بالأمر السهل لعدم قدرتي الإحاطة بجوانب تميز الشيخ ومزاياه الجمة التي يشهد بها كل من عرفه أو تعامل معه فأخشى أن يكون ثنائي عليه مما ينطبق عليه قول الشاعر: ألم تر أن السيف َ ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا الثاني: أن كل من يعرف الشيخ محمد السعدان يعرف أنه من أكثر الناس كراهية للمدح والثناء عليه وأنه من القلائل جداً الذين يعطون كثيراً ولا ينتظرون من أحد كلمة شكر ولا عبارة مدح. إلا أن منهج كتابتي المتخصصة في القضاء والقانون يجعل الكتابة عن شيخنا الكريم من أهم المواضيع التي يجب علي التعرض لها، لا لشخصه - حفظه الله - وإنما لما يمتاز به من جوانب مضيئة وما له من آثار حسنة على القضاء الإداري وعلى ديوان المظالم. وإني أرجو من معالي شيخنا أن يصفح عني حيث كتبت عنه دون علمه ولا مشورته لثقتي أنه لن يقبل بذلك كما أعتذر من معالي الشيخ إن ارتكبت ما لا يرضاه من ثناء عليه لا يرى لنفسه حقاً فيه بينما يرى كل من عرف الشيخ أن الثناء على مثله والتنويه بمنهجه وعلمه وطريقته وفهمه وخدمته للقضاء عامة والقضاء الإداري خاصة، أن ذلك من أفضل الأعمال وأزكاها. معالي الشيخ محمد بن سعد السعدان (عضو مجلس الشورى في الدورتين السابقة والحالية ونائب رئيس ديوان المظالم سابقاً). اسم لامع في ميدان القضاء عموماً والقضاء الإداري على وجه الخصوص. عمل قاضياً في ديوان المظالم سنوات طويلة قرابة ثلاث وعشرين سنة حتى صدر الأمر الملكي الكريم بتعيينه نائب رئيس ديوان المظالم في 10/7/1425هـ فكان ذلك التعيين محل استبشار ومباركة جميع قضاة الديوان لما عرفه الجميع عن معالي الشيخ من تميز في النظر القضائي، ومعرفة بطبيعة وخصائص القضاء الإداري. إلا أن ديوان المظالم خسر بانتقال معالي الشيخ عنه خسارة عظيمة من الصعب تعويضها، ذلك أنه بعد تعيين الشيخ نائباً للرئيس ما لبث أن انتقل للعمل عضواً في مجلس الشورى بتاريخ 3/3/1426هـ. ومع أن انتقال الشيخ إلى عضوية مجلس الشورى كان برغبته إلا أن مما يؤسف له كثيراً في هذه المرحلة المهمة جداً من مراحل تطوير القضاء أن يكون أمثال الشيخ بما يحمله من فهم عميق وتميز واضح في ميدان القضاء عموماً والقضاء الإداري خاصة، أن يقتصر دوره على عضوية مجلس الشورى ولا يستفاد منه في مجالات أكثر فاعلية وتأثيرا، في وقت أحوج ما نكون إلى استقطاب الكفاءات والقدرات المميزة في مجال القضاء لتسهم في رسم مسار تطوير القضاء، وتحديد معالم المستقبل القضائي للمملكة. حباه الله بمزايا عديدة وصفات كريمة وعلم وفهم يصعب علي بسط القول فيها وتعدادها على وجه التفصيل كما يصعب علي الاستقصاء لمحاسنه وآثاره وجليل أعماله في مقال صحفي إلا أني أحاول الإشارة بإيجاز لبعضها: أولاً: يعتبر معالي الشيخ محمد من أبرز رجال القضاء الإداري في المملكة وأعمقهم فهماً لهذا النوع من القضاء وأكثرهم تميزاً فيه بل لا أبالغ حين أقول: إن الشيخ من وجهة نظري التي يشاركني فيها كثيرون ممن عرفوه وتشرفوا بالتتلمذ على يديه من قضاة ديوان المظالم يعتبر كأنه هو القضاء الإداري، حيث تشرّب علْم هذا القضاء وأدرك منه ما لم يدركه غيرُه ممن سبقوه أو أتوا بعده، وكان له في هذا الميدان السبق والريادة والتميز بحيث لا يشق له فيه غبار، إذ تدرج في مراتب السلك القضائي في ديوان المظالم حتى بلغ مرتبة نائب الرئيس عن استحقاق وجدارة وكان طيلة عمله قاضياً في الديوان مرجعاً لكل طالب مشورة أو باحث عن مسألة علمية قضائية سواء من قضاة ديوان المظالم أو غيرهم من الباحثين من خارج الديوان، فكان الشيخ يستقبل الجميع بصدر رحب وترحيب حار ودماثة خلق حتى يشعرك أنك صاحب الفضل عليه بسؤالك له وليس العكس. ثانياً: أعطى الشيخ محمد كل وقته وجهده للعمل القضائي، وأحسبه والله حسيبه أنه من أنصح الناس لدينه ولأمته وولاة الأمر - حفظهم الله - حتى كان أيام عمله نائباً لرئيس ديوان المظالم يعمل بجهد متواصل، حتى يشفق عليه محبوه مما يرونه من إجهاده نفسه ونسيانه ذاته. ثالثاً: من أهم خصائص معالي الشيخ أنه يجمع بين المنهج المحافظ الملتزم بثوابت الدين والفكر الحر المنفتح المتقبل لكل حق بغض النظر عمن جاء بهذا الحق أو الطريق الذي أتى منه، فلم يكن الشيخ من ذوي الفكر الجامد التقليدي الذين ينبذون كل ما لم يعتادوا عليه، وله في هذا السبيل الكثير من الآراء التنويرية الإصلاحية التي يعرفها من تشرفوا بمخالطة الشيخ أو مناقشته. رابعاً: يمتاز الشيخ بالفهم والفكر القانوني الدقيق والقدرة على التكييف السليم للوقائع والقضايا والاستنباط وتفسير النصوص الشرعية والقانونية القضائية، إضافة إلى الفقه والفهم في علوم الفقه والقضاء الشرعيين، وله اطلاع واسع على أمهات الكتب والمراجع الفقهية والقانونية واستيعاب لمناهج المؤلفين فيها حتى كأنه موسوعة فقهية قانونية، مما بدا أثره جلياً على اجتهادات الشيخ وآرائه التي تميز بها. خامساً: وفي ميدان السلوك الشخصي يتسم معالي الشيخ بأعظم مستويات التواضع والبساطة وحسن الخلق وطلاقة الوجه وبذل المعروف للناس دون تمييز بين صغير وكبير ولا قريب وبعيد، يحب الخير للجميع ولا يمكن أن تصدر منه إساءة لفظية أو فعلية لأحد، وكان من مواقفه التي لا أنساها أني دخلت عليه في مكتبه وهو نائب لرئيس ديوان المظالم وكنت حينها قاضياً في الديوان فأخذني إلى الجلسة الجانبية لمكتبه وأصر بشدة على أن يتولى تقديم القهوة لي بيده وجلس معي بكل بساطة وأريحية دون اعتبار لما بيني وبينه من فارق كبير في القدر والرتبة والسن والعلم والخبرة والمكانة وكأنني ند له في ذلك كله. وهذا الموقف العظيم ليس خاصاً بي بل هو ديدن الشيخ في تعامله مع جميع منسوبي ومراجعي الديوان من قضاة وموظفين، إذ كان لهم جميعاً بمثابة الأب الرحيم والأخ الأكبر والمعلم الفاضل. وقبل مدة بسيطة تشرفت بزيارة معالي شيخنا في منزله بصحبة عدد من أصحاب الفضيلة قضاة الديوان للسلام عليه والإفادة من علمه والأنس برؤيته فكان ذلك اللقاء بمثابة حلقة علم وتدريب استمرت من بعد العصر إلى المغرب لا أحصي ما وجدناه فيها من فوائد علمية وعملية جليلة، ومن نصائح غالية ثمينة، من خلاصة تجارب الشيخ ومطالعاته، جاءت مغلفة بغلاف التواضع واللطافة وحسن العبارة، وجعلت الجميع يأسفون أن يبقى هذا القدر الغزير من العلم والخبرة القضائية مطموراً أو لا يستفاد منه إلا في ميدان عضوية مجلس الشورى في حين يبقى الميدان القضائي في أمس الحاجة إلى مساهمة الكفاءات والخبرات العالية التي قد لا توجد عند غير الشيخ محمد إلا القليل. وختاماً أسأل الله عز وجل أن يمن على معالي الشيخ محمد السعدان بالصحة والعافية والتوفيق وأن يمد في عمره على طاعته وأن ينفعنا جميعاً بعلمه وخبرته عمراً مديداً آمين. والحمد لله أولاً وآخراً.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني