بين اللجان القضائية أو المحاكم النوعية

من المعلوم بداهةً الفارق الكبير في طبيعة اللجان القضائية والمحاكم العادية من حيث تبعيتها للجهة القضائية وهي وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء، ومن جهة خضوع أحكامها لمراجعة المحكمة العليا، وخضوع قضاتها لرقابة التفتيش القضائي، وآلية اختيار وتعيين هؤلاء القضاة..

حين صدر نظام القضاء الحالي العام 1428هـ كان من الواضح في نصوصه أنه يؤسس لمرحلة قضائية جديدة في المملكة، تقوم على عدة أسس كان أهمها وأبرزها استحداث المحكمة العليا كمرحلة قضاء نقض وفق المعايير القانونية الحديثة، وإنشاء محاكم نوعية متخصصة لعدة أنواع من النزاعات تدخل تحت مظلة القضاء العام، ليكون القضاء في المملكة على نوعين: أحدهما القضاء العام، والآخر القضاء الإداري.

وكانت الغاية من استحداث المحاكم النوعية المتخصصة هي توفير كوادر قضائية مؤهلة تأهيلاً خاصاً في هذه الأنواع من المنازعات، تعمل في ظل محاكم وقضاء متكامل من كل جوانب القضاء وضماناته المعروفة، وذلك لمعالجة مشكلة كبرى ظلّت مصاحبة للواقع القضائي في المملكة منذ تأسيس الدولة وهي مشكلة اللجان القضائية.

ولهذا فقد تناولت الآلية التنفيذية لنظام القضاء في البند «تاسعاً» من القسم الأول كيفية معالجة وضع اللجان القضائية القائمة وقت إصدار النظام، وقررت أن تنقل إلى القضاء العام اللجان شبه القضائية كافة القائمة حينها، وذلك بعد تعديل نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية وصدور نظام المرافعات أمام ديوان المظالم، إلا أنه تم استثناء ثلاث لجان فقط هي «اللجنة المصرفية ولجنة السوق المالية واللجان الجمركية» فقد كلف النظام المجلس الأعلى للقضاء بإجراء دراسة شاملة لوضع هذه اللجان الثلاث.

ومن مجموع ما سبق يتضح بجلاء التوجه القوي للمنظّم السعودي نحو تقليص وإلغاء هذه اللجان ومعالجة وضعها - على اعتبار أنها استثناء من الوضع العادي للقضاء الطبيعي - وإحلال محاكم نوعية تابعة للقضاء العام مكان هذه اللجان، تتولى نظر أنواع المنازعات كافة وفق الإجراءات القضائية المتبعة في كل العالم وفي المملكة، على غرار ما استُحدث من المحاكم العمالية والجزائية والتجارية.

إلا أنه منذ ذلك الحين يلاحظ المتابع أن اللجان الثلاث المستثناة ما تزال قائمة رغم مرور أكثر من عشر سنوات على النظام، بل أُضيف إلى تلك اللجان عدد كبير من اللجان القضائية التي صارت تتزايد يوماً بعد يوم، وأصبحت تنفرد بالفصل في منازعات متنوعة المجالات، ولكل لجنة إجراءاتها ومبادئها وطريقة تشكيل لأعضائها، ولعل آخر ما صدر في ذلك الأمر الملكي الكريم مؤخراً بتشكيل اللجان الابتدائية والاستئنافية للمنازعات الضريبية.

ومن المعلوم بداهةً الفارق الكبير في طبيعة اللجان القضائية والمحاكم العادية من حيث تبعيتها للجهة القضائية وهي وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء، ومن جهة خضوع أحكامها لمراجعة المحكمة العليا، وخضوع قضاتها لرقابة التفتيش القضائي، وآلية اختيار وتعيين هؤلاء القضاة، إلى غير ذلك من فروقات جوهرية تؤثر بشكل كبير على مخرجات هذه اللجان من أحكام، ومن دلائل ذلك أن قراراتها تواجه صعوبة في الاعتراف بها وتنفيذها في الدول الأخرى التي لا ترى هذه القرارات أحكاماً قضائيةً تخضع لإجراءات تنفيذ الأحكام القضائية لديها.

وهذا الموضوع متشعبٌ لا يتسع هذا المقال للإلمام بجوانبه كافة؛ إلا أن هناك مسألتين لهما أهمية خاصة أود التنويه عليهما وهما:

أولاً: أعتقد أن السبب الذي اضطر المنظّم السعودي للاستمرار في تشكيل وزيادة هذه اللجان القضائية بعد أن أفصح في نظام القضاء وآليته التنفيذية عن التوجه نحو إلغائها وهو ما يعتبر تأكيداً لعدم صحية وضعها؛ أن السبب في ذلك هو كون هذه اللجان تقوم على الفصل في منازعات ذات طابع قانوني بحت يتعلق بأنظمة دقيقة، لا يمكن أن يقوم على القضاء بها متخصصون في الشريعة حتى في حال تم إعطاؤهم دورات تدريبية في هذه الموضوعات؛ إذ لا تكفي الدورات التدريبية لتأهيل كوادر قضائية ضليعة في هذه المجالات المتخصصة، وبالتالي فإنه مع استمرار نظام القضاء في اشتراط كون القاضي من خريجي كليات الشريعة حصراً، فلا سبيل لقيام محاكم تحت مظلة القضاء ومرجعيته، تنظر هذه النزاعات المتخصصة، مما يجعل من الضروري المبادرة لإزالة هذه العقبة في وجه التطبيق القضائي الصحيح، وفتح المجال لتعيين خريجي القانون قضاةً وسدّ احتياج هذه المجالات المتخصصة بهم، من خلال محاكم نوعية كمحاكم القضاء التجاري والعمالي ونحوها.

وهنا لابد من التأكيد على أن المعالجة الأسلم والأشمل تكمن في المبادرة لإنهاء الفصل بين اختصاصي الشريعة والقانون في الدراسة الجامعية، وتوحيد التخصص ليدرس الطلاب الشريعة والقانون جنباً إلى جنب، وهذا هو الحل الأوحد والصحيح.

ثانياً: من أبرز إشكالات هذه اللجان القضائية ما لاحظته من تكرار أسماء بعض أعضائها في عدة لجان، فيكون العضو الواحد مكلفاً بالعمل في أكثر من لجنة قضائية، مع ما تشهده اللجان من كمية عمل كبيرة جداً قد يجعل من المتعذر على العضو الواحد القيام بأعباء لجنتين في وقت واحد، فضلاً عن أن بعضهم قد يكون عضواً في أكثر من لجنتين، وهذه مشكلة كبيرة تؤثر على جودة وسلامة مخرجات هذه اللجان من القرارات والأحكام.

وبذلك فلعل من الضروري تفريغ أعضاء هذه اللجان ليكون لكل لجنة أعضاء مفرغون لها وحدها، وعسى أن يكونوا قادرين على مواجهة الكم الهائل من الأعمال المنوطة بتلك اللجنة.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني