حتى لا يؤثر انتقال القضاء التجاري في الاقتصاد
لا يخفى مدى تأثير القضاء التجاري على اقتصاد الوطن وحركة الاستثمار الداخلي والخارجي فيه. كما لا يخفى حجم وموقع وأهمية الاقتصاد والإصلاح الاقتصادي في الرؤية السعودية الجديدة 2030.
وبالتالي فإن ما تزمع تنفيذه وزارة العدل بالتنسيق مع ديوان المظالم من انتقال القضاء التجاري إلى مظلة وزارة العدل، يأتي في أشد الظروف حساسية وأكثر الأوقات حرجاً، لأنه جاء متزامناً مع مشروع
وطني ضخم يرتكز بشكل كبير على إصلاح مناخ الاقتصاد الوطني، والتركيز على جلب وتشجيع الاستثمار المحلي والخارجي، وكل ذلك يمكن أن يتعرض لهزة عنيفة، وتعثر غير محسوب، بمجرد أن يظهر أي خلل على أداء القضاء التجاري الذي هو المرجع لكل النزاعات التجارية.
كما يأتي انتقال القضاء التجاري أيضاً متزامناً مع المرحلة الحالية التي تشهد ركوداً اقتصادياً أثر على أقوى دول العالم، والمملكة ليست استثناء منها، ما يزيد العبء على القضاء التجاري أن يستشعر الواقع بشكل
دقيق وأفق واسع، وأن يكون على قدر الآمال في المساهمة في التخفيف من آثار هذا الركود الاقتصادي من خلال حسن تأدية القضاء التجاري لمهامه، واضطلاعه بدوره الحيوي .
وكنت في المقال السابق أشرت إلى بعض الإشكالات التي يحتمل أن تؤثر سلباً في انتقال الدوائر التجارية من ديوان المظالم إلى وزارة العدل، وأن أي تقصير أو خلل أو تحضير ناقص لإتمام هذا الانتقال سيؤثر آثاراً سلبية جسيمة على اقتصاد الوطن وحركة التجارة والاستثمار فيه.
وبعد نشر المقال سعدت بلقاء مع بعض أصحاب الفضيلة مسؤولي وزارة العدل القائمين على ترتيبات انتقال القضاء الجزائي والتجاري إلى القضاء العام، وأطلعوني مشكورين على الكثير من التراتيب والجهود المشكورة التي تبذلها الوزارة بمتابعة وحرص من معالي وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني، وما أعدته وزارة العدل من إجراءات وخطط لضمان حسن انتقال القضاء الجزائي والتجاري إلى الوزارة .
وفي الحقيقة وجدت أن هذه التراتيب والخطط جاءت شاملة للكثير من الاحتمالات والمتطلبات الأساسية التي تساعد على تحقيق نجاح عملية السلخ . وكان فيها إجابة عن الكثير من التساؤلات التي تدور في ذهني حول كيفية تعامل وزارة العدل مع ما سيطرأ من تغييرات بعد إتمام الانتقال.
وكان أبرز إشكالين طرحتهما في مقالي السابق هما:
مشكلة مباشرة القضاء التجاري لاختصاصاته الجديدة الواردة في نظام المرافعات الشرعية، ومدى قدرة المحاكم التجارية الجديدة على مواجهة ما سيطرأ من تضاعف أعداد القضايا بعد تطبيق الاختصاصات الجديدة،
ومشكلة مباشرة محاكم الاستئناف أعمال الاستئناف وفق الوارد في نظام المرافعات، ومدى كفاية أعداد قضاة الاستئناف التجاري خصوصاً على مواجهة الكم الهائل من القضايا التي ستفتح عليهم بعد تطبيق الاختصاصات الجديدة ؟.
وقد وجدت أن الوزارة اتخذت في سبيل مواجهة الإشكالية الأولى المتعلقة بأعداد القضاة في المحاكم التجارية، عدداً من الاجراءات الجيدة التي ستسهم بلا شك في التقليل إلى حد كبير – بإذن الله – من تراكم القضايا وتباعد مواعيد نظرها، وأن الوزارة عملت مسحاً شاملاً لأعداد القضايا المنظورة حالياً لدى الدوائر التجارية في ديوان المظالم، والقضايا المتوقع تحويلها من المحاكم العامة إلى المحاكم التجارية بعد تطبيق الاختصاصات الجديدة، وأن الوزارة شرعت بالفعل في تهيئة أعداد من القضاة تناسب للحجم المتوقع من القضايا .
وفي هذا السبيل فإني أود طرح بعض المقترحات التي أرى أهميتها، لتكون إضافة ً إلى ما أعدته وزارة العدل من ترتيبات، ومن ذلك :
أولاً : أعتقد من الضروري جداً إعادة النظر في صياغة المادة (35) من نظام المرافعات الشرعية التي فتحت الباب على مصراعيه لإغراق المحاكم التجارية بأنواع من الدعاوى لا تعد أبداً من النزاعات التجارية لا الأصلية ولا التبعية، ولا تعدو كونها أعمالاً مدنية يختص بنظرها القضاء العام، وفي إشغال المحاكم التجارية بها سيرتب ذلك إلغاء لفكرة وميزة القضاء التجاري، الذي من المفترض أن يحتفظ بمبادئه وقواعده التي لا تنطبق إلا على نزاعاته.
ومن ذلك ما جاء في الفقرة (ب) من هذه المادة، والتي تختص بـ " الدعاوى التي تقام على التاجر بسبب أعماله التجارية الأصلية والتبعية "، وكذلك نص الفقرة (و) من نفس المادة التي جاء نصها " المنازعات التجارية الأخرى " دون تحديد للمقصود وما هي المنازعات التجارية الأخرى ؟!.
وبالتالي فإن كماً هائلاً من الدعاوى التي تنظرها المحاكم العامة حالياً ستتوجه إلى المحاكم التجارية، وتغرق هذه المحاكم في دعاوى ليست من اختصاصها أصلاً .
وهذا ما يستدعي سرعة تعديله.
ثانياً : من المعلوم لكل ذي صلة بديوان المظالم وقضائه وقضاته، أنه وخلال السنوات التالية على صدور نظام القضاء الجديد منذ عام 1428هـ تم انتقال عدد كبير من القضاة الذين كانت خبرتهم طويلة ً في القضاء التجاري إلى دوائر القضاء الإداري، وكان الغاية من ذلك هو بقاءهم في ديوان المظالم وعدم سلخهم إلى المحاكم التجارية .
وفي الحقيقة إن هذا الإجراء يخالف المصلحة العامة، كما يخالف التطبيق السليم للنظام الجديد، إذ يفهم من صدور النظام الجديد وما نص عليه من الإفصاح عن نية سلخ هذه الدوائر إلى القضاء العام، أن يتم الإبقاء على القضاة العاملين فيها ممن اكتسبوا خبرة جيدة في القضاء التجاري، ليكونوا على قائمة من ينتقل إلى المحاكم التجارية، إذ من البدهي أن واضع النظام لا يهدف إلى مجرد نقل الوظائف دون النظر إلى من يشغلها، بل الهدف هو نقل الخبرة التي تكونت خلال السنوات الماضية، وذلك حتى لا تضطرب الأحكام والمبادئ القضائية في القضاء التجاري .
وعلى هذا الاعتبار فإن من المصلحة أن يعاد النظر في إعادة هؤلاء القضاة الذين كانوا يمارسون القضاء التجاري عدة سنوات سواءقبل صدور نظام القضاء الجديد أو بعده، ليكونوا ضمن القضاة المنتقلين إلى المحاكم التجارية في وزارة العدل، فنكون قد وفرنا عدداً أكبر من القضاة، ذوي الخبرة في القضاء التجاري .
سيما وأن القضاء الإداري لا يقارن في كثرة قضاياه بالقضاء العام والتجاري .
أما عن إشكالية بدء محاكم الاستئناف في مزاولة عمل الاستئناف فقد علمت من أصحاب الفضيلة مسؤولي وزارة العدل أن ذلك ليس مرتبطاً بانتقال القضاء الجزائي أو التجاري إلى القضاء العام، وأنه لن تبدأ محاكم الاستئناف في مباشرة هذه الأعمال وفق النظام الجديد، إلا عند توافر الكوادر الكافية من القضاة والموظفين القادرين على الاضطلاع بهذه المهمة الشاقة.
وختاماً لا يفوتني التأكيد على أهمية وقيمة ما تقوم به وزارة العدل من أعمال وإجراءات وجهود مشكورة، لتحقيق رؤية خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – ومتطلبات الرؤية الوطنية السعودية في ميدان القضاء، وقد لمست أثناء زيارتي للوزارة بعض ملامح هذه الجهود المشكورة، وما يتصف به فريق العمل النشط من شفافية وسعة أفق، وحرص واضح على إشراك كل ذوي العلاقة بالعملية القضائية في هذه الجهود .
وفق الله القائمين عليها والحمد لله أولاً وآخرا.