مراجعة لآلية تأهيل وتعيين القضاة
منذ صدور الأنظمة القضائية الأخيرة في المملكة عام 1428ه والمرفق القضائي يمرّ بعدة تحولات جذرية وكبيرة من شأنها – بإذن الله – أن ترتقي بمستوى أداء القضاء السعودي، وتزيد في كفاءة اضطلاعه بالدور الأساسي المنوط به في حفظ الحقوق، والفصل في النزاعات، وبسط العدالة.
ورغم ما تضمنته تلك الأنظمة من تعديلات لا يستهان بها؛ إلا أنه في نظري ما زال العنصر الأهم في العملية القضائية – وهو العنصر البشري – لم يطرأ عليه أي تعديل أو إصلاح يتواكب مع المتغيرات الكبيرة في الاحتياجات والظروف المحلية والعالمية، التي كانت هي السبب الرئيس وراء تعديلات الأنظمة القضائية الأخيرة، ليضاف إليها الكثير من متطلبات واحتياجات العصر الحديث، سواء بزيادة درجات التقاضي، أو بإقرار قضاء النقض في المحكمة العليا، أو المحاكم النوعية المتخصصة، إلى غير ذلك من تغييرات هيكلية اعتنت بالتنظيم والهياكل، وبقي العنصر البشري ينتظر دوره في هذا الإصلاح الكبير.
وإذا كنا نأمل أن تحقق الأنظمة القضائية الحديثة الغاية المرجوة منها، وأن يكون تطبيقها يجري على أحسن المستويات وأعلاها كفاءة؛ فإن هذا الهدف منوطٌ في المقام الأول بالقائمين على إنفاذه وهم (القضاة) أولاً، ثم (أعوان القضاة).
وكلما دار الحديث عن أداء المحاكم، أو طُرحت أي انتقادات حول إجراءاتها، فإن الأنظار تتجه دوماً إلى القضاة، دون التفكير في ما يحيط بهؤلاء القضاة من ظروف، أو عوامل وأسباب تؤثر في أدائهم.
وبطبيعة الحال وبإيجاز شديد يمكن تلخيص هذه العوامل في (أسلوب تأهيل القضاة وإعدادهم المسبق قبل التعيين)، و(طريقة وإجراءات تعيينهم في الوظيفة القضائية)، و(حقوقهم وواجباتهم الوظيفية)، و(أسلوب الرقابة عليهم ومتابعة أدائهم).
وكل عنوان من تلك العناوين يستدعي إفراده بمقال خاص وقد لا يفي بما يحتاجه من بحث؛ إلا أني هنا أود التركيز على جانب أساسي، أعتقد أنه ما لم تتم إعادة النظر فيه، فلا يمكن لنا أن نتوقع الوصول إلى المرحلة المأمولة من جودة مخرجات المحاكم والعمل القضائي، ألا وهو (أسلوب تأهيل القضاة قبل التعيين)، و(طريقة اختيار وتعيين القاضي).
أولاً: فيما يتعلق ب (تأهيل وإعداد القاضي قبل التعيين) فإن من المعلوم أن اختيار القضاة لدينا في المملكة يكون من خريجي كليات الشريعة في المملكة أو ما يعادلها.
وبالرجوع إلى مناهج التعليم المعتمدة في كليات الشريعة، وعلى رأسها كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، نجدها تخلو من الكثير من المواد الضرورية لصناعة الشخصية العلمية المتينة للقاضي الحديث، وأنها تقتصر على دراسة الفقه الإسلامي ومواد العلم الشرعي بالطريقة القائمة على التلقين فقط، دون الأخذ في الاعتبار تنمية مهارات التحليل والبحث، وتكوين الملكة الفقهية الضرورية للاجتهاد والاستنباط، ودون العناية بالجوانب العملية التطبيقية التي يحتاجها القاضي في عمله، مثل مهارات وأساسيات نظر الدعاوى، وإدارة الجلسات، وتسبيب الأحكام، وغيرها من المتطلبات الأساسية للقاضي.
كما تكاد تخلو تماماً من أي تأهيل قانوني، وتكوين الشخصية القانونية للقاضي، التي يمكنه من خلالها التعامل مع النصوص القانونية، واستيعابها، والاستنباط منها، بل وحتى إدراك قيمتها والالتزام بها.
وبالتالي يتخرج الطالب من كلية الشريعة ويتم تعيينه قاضياً، وهو لم يقرأ يوماً نظام المرافعات، بل ويوجه للعمل قاضياً في القضاء الإداري، أو التجاري، أو الجزائي، أو العمالي أو غيرها، وهو لم يدرس أي مادة من المواد المتخصصة في هذه الأنواع من القضاء، ولا يكون له أي اطلاع أو علاقة بها إلا بعد تعيينه.
كما ليس هناك أي تركيز أثناء الدراسة الجامعية على شخصيات الطلاب الذين يكون هناك توجه لتعيينهم في القضاء، أو معايير للانتقاء من بينهم بناء على نتائج المتابعة الطويلة لشخصياتهم وسلوكهم وخصائصهم النفسية والأخلاقية فضلاً عن العلمية، ومن ثم فيتم اختيار القاضي هكذا دون أي اعتبار لهذه الجوانب المهمة.
ثانياً: ما يتعلق ب(طريقة وأسلوب اختيار القاضي وتعيينه) فإن نظام القضاء في المملكة لا يشترط لتعيين القاضي في بداية السلم الوظيفي أي خبرة سابقة، أو سن معين، بل يكفي حصوله على شهادة البكالوريوس من كليات الشريعة ليتم تعيينه قاضياً، فيكون القاضي هنا شاباً صغير السن، منعدم الخبرة العملية، وكثيراً ما يكون عزباً لم يتزوج بعد، ولم يبدأ في تحمل مسؤولية أسرة فضلاً عن مسؤولية القضاء الجسيمة الخطيرة !.
وهذا بلا شك خللٌ جسيم، ولا يمكن القول بأن إخضاع القاضي لفترة ملازمة قضائية مدتها ثلاث سنوات يكفي لتلافي هذا الخلل – مع أنه حتى في فترة الملازمة القضائية يباشر الملازم إصدار الأحكام وفق ضوابط -.
إن المتطلبات الأساسية للنجاح في أداء مهام وظيفة القضاء الجسيمة، تتوقف على بلوغ مرحلة عمرية من النضج والرشد، يرتبط بها غالباً اتصافه بالحلم والأناة، ورجاحة العقل، والقدرة على وزن الأمور، والاضطلاع بالمسؤوليات.
بالإضافة إلى ضرورة حصوله على تجربة عملية في أي من الميادين المرتبطة بالقضاء، من خلال تقديم استشارات شرعية حقوقية، تمكّنه من الاطلاع عن كثب على الأحكام القضائية، وأسلوب عمل المحاكم، ويقضي في هذه الوظيفة شطراً من عمره بما يكفل توافر الشرطين الأساسيين لتأهيله لوظيفة القضاء، وهما النضج العمري، والتجربة العملية.
ويمكن ذلك من خلال العديد من المجالات، سواء في وظائف باحثين ومستشارين داخل المحاكم، أو العمل أعضاء في هيئة التحقيق والادعاء العام، أو باحثين ومستشارين في بعض الجهات الحكومية في أعمال حقوقية، كإدارات الحقوق في وزارة الداخلية أو إمارات المناطق، أو غير ذلك الكثير من المجالات. ويكون هناك حد أدنى للخبرة العملية التي يشترط حصول القاضي عليها في أحد هذه المجالات، قبل ترشيحه لوظيفة القضاء.
ثم يتم اختيار القضاة من خلال الترشيحات التي ترفعها تلك الجهات التي عملوا فيها منذ تخرجهم، بناء على ما ظهر على المرشح من كفاءة وفهم وإدراك.
هذه متطلبات أعتقد أنها ضرورة ملحّة، يجب العناية بتحقيقها، وتعديل نظام القضاء ليشملها، لأن غيابها يعتبر نقصاً وخللاً لا يسهمان في الارتقاء بمستوى القضاء.
والحمد لله أولاً وآخرا.