هيئة قضايا الأجهزة الحكومية .. هي الحل!

مقال أسبوعي ينشر كل يوم سبت في جريدة الرياض

من النظريات المقررة في القضاء الإداري، اعتبار جهة الإدارة حين تكون طرفاً في أي دعوى (خصماً شريفاً) وذلك لأنها لا تطلب لحظ نفسها شيئاً، وأن هدفها هو المصلحة العامة، وتطبيق النظام على الجميع بدرجة متساوية، وبعدالة تامة.

كما ينظر القضاء الإداري إلى القرارات الصادرة عن جهة الإدارة على أن الأصل فيها هو الصحة والمشروعية، ويقع عبء إثبات عكس ذلك على عاتق الفرد الذي يخاصم الإدارة أمام القضاء.

وإذا كان الأمر كذلك فإن النتيجة الطبيعية أن تتجرد الدعوى الإدارية أمام القضاء الإداري من أي صورة من صور اللدد في الخصومة، والمماطلة والتعطيل الذي قد يقع في الخصومات العادية بين الناس.

إلا أنه بمراجعة شاملة لواقع الدعاوى الإدارية التي ينظرها ديوان المظالم في محاكمه الإدارية منذ نشأتها، يمكن للمتابع أن يرصد العديد من المظاهر السلبية التي تؤكد أن ممارسات الكثير من جهات الإدارة أمام القضاء لا تسير في هذا الاتجاه، ولا تشجع على الاستمرار في افتراض كونها خصماً شريفاً، بل يصدر عن بعض الجهات الإدارية من ممارسات اللدد والمماطلة وأحياناً (تضليل القضاء) من خلال إخفاء بعض المستندات، أو إنكار وقائع ثابتة، أو التأخر الطويل في الرد عن الدعوى وكثرة الاستمهال، أو الغياب عن حضور الجلسات، وغير ذلك الكثير من الممارسات، ما يفوق الممارسات التي تحدث في الخصومات العادية بين الناس.

ومن الطبيعي أن مثل هذه الممارسات تعتبر مؤشراً كبيراً على شعور جهة الإدارة التي تمارس ذلك بضعف موقفها القانوني، وإفلاسها من الحجة، ولهذا تحاول تعطيل الدعوى، وخلط الأوراق.

وإذا قلنا: (جهة الإدارة) فإن المقصود بذلك حقيقة بعض الموظفين أو المسؤولين الذين يقفون وراء مثل هذه الممارسات غير المشروعة، بينما لا تقف آثار مثل هذه التصرفات غير النظامية على أشخاص من صدرت عنهم، بل تتعداهم إلى الجهة التي ينتسبون إليها، وتجعلها تحت طائلة المسؤولية، إعمالاً للقاعدة الثابتة "مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعه".

وفي المقولة الشعبية الشهيرة "لو أنصف الناسُ لاستراح القاضي" والإنصاف من الناس جميعهم أمرٌ محال، إذ من طبيعة البشر الظلم والجهل والخطأ، لكن أليس من الواقعي والمعقول أن نتمنى (إنصاف الجهات الحكومية) ليستريح القضاء الإداري؟!.

إنه بتتبع الكثير من الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء الإداري، وما تضمنته من أحكام بإلغاء قرارات إدارية، والحكم بتعويض المتضرر بسبب هذه القرارات غير المشروعة، يمكن لنا أن نجد أخطاء بعض الجهات الإدارية تأتي في ثلاث مراحل أساسية هي:

أولاً: مرحلة ما قبل الدعوى القضائية، وذلك بما يصدر عن الجهة الإدارية من قرارات أو أعمال غير مشروعة، ومخالفة لأنظمة صريحة وواضحة، حتى إن بعض المخالفات الصادرة عن جهات حكومية، تمثل انتهاكاً صارخاً للأنظمة، وتعسفاً مفضوحاً، لا يعني إلا أن مثل هذا التصرف المخالف يقف وراءه موظف أو مسؤول قد بلغ درجة كبيرة من الجهل أو الفساد.

ومثل هذا الأمر ليس سراً إذ تكشفه عشرات الأحكام القضائية المنشورة من أحكام القضاء الإداري. ولعلي في مناسبة لاحقة أستعرض بعضاً منها.

ثانياً: ممارسات بعض الجهات الحكومية أثناء نظر الدعوى الإدارية، وهي كما أشرتُ أعلاه، تنطوي على مماطلة وتضليل وإخفاء مستندات، وتنكّر للحقيقة، وغياب عن الجلسات وغير ذلك من ممارسات غير مقبولة.

ثالثاً: موقف بعض الجهات الحكومية بعد انتهاء الدعوى الإدارية بصدور حكم نهائي فيها، فهناك العديد من الأمثلة التي امتنعت جهات حكومية عن تنفيذ أحكام القضاء التي صدرت ضدها – رغم اكتسابها القطعية – في استهتار واضح بأنظمة القضاء والأوامر والتعليمات المتوالية بهذا الخصوص.

كما أن بعض الجهات الحكومية تمارس تصرفات انتقامية من الشخص الذي خاصمها أمام القضاء، سواء أكان موظفاً تابعاً لها، أم مستثمراً أم مقاولاً متعاقداً معها، أم غير ذلك، فتتم مضايقته، وحرمانه من حقوقه المشروعة، وقد يقع عليه من الأضرار ويلحق به من الخسائر أضعاف ما لجأ إلى القضاء ليطلبه من حقوق.

إن هذه الممارسات جميعها تكشف عن أنه لا يمكن التسليم أبداً بنظرية أن جهة الإدارة في الدعوى الإدارية (خصم شريف)، وأن مثل هذه النظرية يصعب قبولها إلا في حالة واحدة هي:

أن يتم إنشاء (هيئة قضايا الدولة) وتكون هيئة مستقلة تتبع وزارة العدل أو ديوان المظالم، يتولى فيها مستشارون قانونيون مؤهلون مهمة تمثيل الجهات الحكومية في الترافع أمام القضاء الإداري، ويكون هؤلاء المستشارون على كوادر وظيفية خاصة مثل كوادر القضاة، ومحسوبين على الهيئات القضائية وجزءاً منها، ولا يخضعون بأي شكل من الأشكال لتأثير ولا توجيه الجهة الحكومية التي يترافعون بالنيابة عنها، بل يقف دورها عند تسليمهم ملف القضية، وتزويدهم بكل ما يطلبونه من مستنداتها، وبهذا تكون (هيئة قضايا الدولة) هي بالفعل (الخصم الشريف) الذي يهدف إلى إعانة القضاء على تجلية الحقيقة، وضمان حسن تطبيق الشرع والنظام.

أما ونحن الآن نفتقد مثل هذه الهيئة، فإن المسؤولية مضاعفة على القضاء الإداري، وعلى أجهزة الرقابة المختلفة، أن تبذل غاية جهدها للحدّ من الممارسات غير القانونية، التي تصدر عن بعض الجهات الحكومية، والمحاسبة الشديدة لكل من ثبت ارتكابه لجريمة تعسف إداري، أو إساءة استعمال سلطة، أو تعطيل أو تضليل العدالة القضائية، أو عرقلة تنفيذ أحكام القضاء.

والحمد لله أولاً وآخرا.

الكاتب: 
د. محمد بن سعود الجذلاني