محاكم الاستئناف الإدارية والمنزلة بين المنزلتين
حين صدرت الأنظمة القضائية الأخيرة بما تضمنته من إقرار درجة جديدة من درجات التقاضي وهي (درجة الاستئناف) أولت آلية العمل التنفيذية لنظام القضاء أهمية قصوى لترتيب مراحل وكيفية البدء في التطبيق الشامل لكل ما تضمنته الأنظمة القضائية في هذا الصدد.
ولأنه تأخر صدور الأنظمة الجديدة للمرافعات الشرعية والمرافعات أمام ديوان المظالم، فقد عالجت آلية العمل التنفيذية تأثير ذلك على بدء العمل بكل ما تضمنته الأنظمة الجديدة من محاكم متخصصة، ودرجات تقاضٍ إضافة لمراعاة العوامل الأخرى المتعلقة بتوفير العدد الكافي من القضاة وأعوانهم.
وبشأن محاكم الاستئناف في وزارة العدل فقد أكدت تلك الآلية في البند "رابعاً" على أنه: "تتولى محاكم الاستئناف اختصاصات محكمة التمييز إلى حين تعديل نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية، وذلك دون إخلال بما ورد في الفقرة (9) من هذا البند".
ثم قررت الآلية أيضاً أنه:"يحدد المجلس الأعلى للقضاء فترة انتقالية - بعد تعديل نظام المرافعات الشرعية ونظام الإجراءات الجزائية - لتباشر بعدها محاكم الاستئناف اختصاصاتها وفقاً لنظام القضاء..".
وكذلك الحال فيما يتعلق بمحاكم الاستئناف الإدارية في ديوان المظالم، التي قررت الآلية بشأنها في القسم الثاني البند"رابعاً" أنه "تتولى محاكم الاستئناف الإدارية اختصاصات دوائر التدقيق الإداري إلى حين صدور نظام المرافعات أمام ديوان المظالم والعمل بموجبه، وذلك دون إخلال فيما ورد في الفقرة (أ) من هذا البند".
وأنه:"يحدد مجلس القضاء الإداري فترة انتقالية - بعد صدور نظام المرافعات أمام ديوان المظالم والعمل بموجبه - لتباشر بعدها محاكم الاستئناف الإدارية اختصاصاتها".
وطبقاً لهذه النصوص النظامية الواضحة فقد أصدر مجلس القضاء الإداري قراراً بوقف العمل بالفصلين (الثاني) و(الرابع) من نظام المرافعات أمام ديوان المظالم واستمرار العمل – مؤقتاً - بالاختصاصات القديمة لدوائر التدقيق في ديوان المظالم، وأنه إلى الآن لم يبدأ العمل بإجراءات الاستئناف المنصوص عليها في النظام الجديد باعتباره درجة ثانية من درجات التقاضي، وكذلك في عمل المحكمة العليا. وهو ما عليه الحال في محاكم استئناف وزارة العدل.
والسبب في ذلك ليس خافياً على أحد، وهو ما يلزم للبدء في تطبيق النظام الجديد من الاستعداد بكافة الوسائل والإمكانات من أعداد قضاة وأعوان قضاة وتراتيب أخرى ما زالت تحتاج إلى بعض الوقت لضمان سلاسة الانتقال من الوضع السابق إلى الجديد، دون التأثير سلباً على أداء المحاكم وبما يضر بحقوق ومصالح الناس.
إلا أنه صدر مؤخراً عن ديوان المظالم فيما يتعلق بهذا الجانب قرارٌ يلزم قضاة محاكم الاستئناف بعقد جلسات يدعى إليها الخصوم وذلك للنطق بما يصدر عن دوائر محكمة الاستئناف من أحكام في جميع الأحوال.
والمقصود بذلك أنه يجب على محكمة الاستئناف أن تعقد جلسات لجميع الخصوم في جميع القضايا المنظورة لديها وتنطق بما يصدر في هذه القضايا من أحكام في جلسة علنية، أياً كان ذلك الحكم، سواء أكان بنقض الحكم وتصدي محكمة الاستئناف للنظر في الدعوى – وهذا لا إشكال فيه – أم بتأييد الحكم المُعترض عليه، أو الحكم بالنقض وإعادته للدائرة التي أصدرته لإعادة النظر فيه.
ومن المعلوم أن النظام القديم لدوائر التدقيق – والذي ما زال مطبقاً – لم يتضمن هذا الحكم النظامي فلا يستدعى الخصوم في محكمة الاستئناف إلا في حال قررت المحكمة نقض الحكم والتصدي لنظر الدعوى وعقد جلسات لهذا الغرض تسمع فيها المحكمة لما لدى الأطراف. أما في حال قررت الاستئناف تأييد الحكم أو نقضه وإعادته للدائرة التي أصدرته، فإن ذلك لا يتطلب إحضار الخصوم وتلاوة الحكم عليهم.
كما تضمن النظام الجديد – الذي لم يبدأ العمل به فيما يتعلق بمحاكم الاستئناف – أنه يتم عقد جلسات للخصوم ودعوتهم للحضور أمام محكمة الاستئناف والغرض من ذلك هو بدء مرافعة جديدة يمكن فيها للخصوم تقديم ما لديهم من أدلة ودفوع وما يستجد، وهذا ما يجعل حضور الخصوم لازماً ومفيداً في هذه الحال.
أما القرار الذي صدر مؤخراً عن ديوان المظالم فهو لم يأخذ بالنظام القديم، ولا بالنظام الجديد، واستحدث ما يمكن وصفه ب (المنزلة بين المنزلتين) فلا هي منزلة تدقيق – كما في السابق – ولا منزلة استئناف – كما هي الحال الآن – وهذا يخالف ما صدر عن مجلس القضاء الإداري من قرار بإيقاف العمل بالأحكام المتعلقة بمحاكم الاستئناف وكذلك المحكمة العليا الإدارية، إلى حين اكتمال الترتيبات اللازمة لتطبيق كامل أحكامهما.
وهذا القرار (استدعاء الخصوم) أيضاً يجرّ إلى الكثير من الإشكالات التي قد لا يتم التنبه لها إلا بعد وقوعها، وبالتالي فقد يضع محاكم الاستئناف في حرج، ويصعب بعده الرجوع إلى سحب أو إلغاء هذا القرار.
والضرر أو الأثر السلبي على تطبيق هذا القرار لا يقع على عاتق القضاة وموظفي المحكمة فقط، بل إنه يضر بالدرجة الأولى والأكبر بأطراف الخصومة وذلك من عدة جوانب أبرزها:
أولاً: أن فيه تكليفاً لهم بالحضور من أماكن قد تكون بعيدة وتحميلهم مصاريف السفر والانتقال، دون أي جدوى من حضورهم.
ثانياً: أن تطبيق القرار يترتب عليه تأخير كبير جداً في إنجاز القضايا وتراكم العمل في المحاكم لأنه يستغرق وقتاً وجهداً كبيراً من القضاة وأعوانهم للتصدي لحضور هذه الجلسات ومزاحمة وقتها لوقت نظر ودراسة القضايا وكتابة الأحكام.
ثالثاً: سيرتب تطبيق هذا القرار – بلا شك – العديد من الاعتراضات والطعن على إجراءات إصدار الأحكام لأنه ليس موافقاً للنظام أن تعلن المحكمة حكمها في جلسة علنية إذا كان الحكم بتأييد الحكم محل الاعتراض، أو بالنقض وإعادة القضية للدائرة التي سبق وحكمت فيه، دون مرافعة ودون السماح للخصوم الحاضرين بتقديم أي شيء مما لديهم من أدلة ومستندات ودفوع وإيضاحات يرون أهمية تقديمها، كما لا يكون لهم الحق في الاعتراض على الحكم الذي سمعوه، بل يقال لهم (اسمعوا الحكم الصادر وانصرفوا دون نقاش)!.
إني وأنا أكتب هذا المقال، أعلق الكثير من الآمال في معالي رئيس ديوان المظالم رئيس مجلس القضاء الإداري المعين حديثاً الشيخ خالد اليوسف، والذي أعرفه عن كثب، زميلاً سابقاً لي سعدت بزمالته في العمل القضائي وفي دراسة مرحلة الدكتوراه، وعرفت عنه الأهلية والكفاية والحرص على جودة العمل، بأن يعيد النظر في هذا القرار، سيما وأني أعلم بأنه تم التحضير لهذا القرار بوقت سابق قبل تعيين معاليه رئيساً، وأن يضع معالي الرئيس نصب عينيه الغاية الأساسية التي يحرص عليها ويؤكدها دوماً خادم الحرمين الشريفين "أيده الله" من أن تكون مصلحة المواطنين والتيسير عليهم فوق كل اعتبار.
وأقول مجدداً: لك يا معالي الرئيس أن تتصور ما يترتب على مثل هذا القرار من آثار سيئة، دون أدنى مصلحة ترجى وراءه، فضلاً عن مخالفته للنظام، وأنه أيضاً ليس مطبقاً في محاكم الاستئناف في وزارة العدل التي هي صنو محاكم الاستئناف الإدارية وإجراءاتهما سواء، كما أنه حسبما عرفت كان محل امتعاض وعدم رضا قضاة محاكم الاستئناف الإدارية، الذين قدم بعضهم لمجلس القضاء الإداري دراسة ورأياً مكتوباً يتضمن شرح أبعاد وسلبيات هذا القرار، لأنهم يعرفون جيداً مدى ضرره على حسن سير العملية القضائية، وإحداثه لثغرة كبيرة من الاعتراضات والشكاوى قد تغرق فيها لاحقاً محاكم ورئاسة ديوان المظالم.
علاوة على عدم تهيئة مباني محاكم الاستئناف الحالية لاستقبال وعقد الكم الكبير من الجلسات في حال تطبيق هذا القرار، لعدم كفاية قاعات الجلسات المتوفرة حالياً لذلك.
وما طرحته في هذا المقال يأتي من منطلق واجبي ككاتب في الشأن القضائي، من طرح النقد الهادف، والإسهام في الارتقاء بجودة العمل القضائي، ومن زاوية خبرتي العملية والمهنية، وبعد اطلاعي على كافة عناصر وجوانب هذا القرار، واستطلاع آراء الكثير من قضاة محاكم الاستئناف الإدارية، وغيرهم من الزملاء المحامين.
وأسأل الله أن يوفق معالي رئيس ديوان المظالم رئيس مجلس القضاء الإداري وأصحاب المعالي أعضاء المجلس لتأمل هذه الجوانب الضرورية.
والحمد لله أولاً وآخرا.